قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولا يجوز لمن أراد دخول مكة تجاوز الميقات غير محرم].
أي: من أراد أن يدخل مكة ففي مذهب الحنابلة أن من أراد دخول مكة لابد أن يكون محرماً إلا لأسباب، ومكة ليست ككل البلاد، فمن خصائصها: أن من أراد دخولها لابد أن يدخلها وهو محرم.
وفي هذا اختلاف بين المذاهب، وفي الحقيقة أن المذهب الحنبلي يرى -ومعه الأدلة- أن من أراد دخول مكة لابد أن يكون محرماً.
قال الشارح: [لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم من الميقات، وقد قال: (خذوا عني مناسككم) فكان واجباً بالأمر، ولا يجوز ترك الواجب إلا لقتال مباح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه المغفر].
يعني: طاقية الحرب أو خوذة أو ما يستعد به للقتال، فدخل مكة وعلى رأسه المغفر، فالمحرم لا يضع شيئاً على رأسه؛ لأن ذلك من محظورات الإحرام، فحين رأوه وهو داخل إلى مكة وهو يغطي رأسه فمعنى ذلك أنه ليس محرماً، إنما دخلها لقتال مباح.
قال: [أو لحاجة تتكرر كالحطاب].
وهو الذي يجمع الحطب، وهكذا الذي يعمل ساقياً لأهل مكة، أو الذي يعمل على سيارة أجرة من جدة إلى مكة، أو من الطائف إلى مكة، فليس من المعقول أنه كلما دخل يحرم، فالحطاب أو ساقي الماء أو الذي يركب الطائرات ونحو ذلك هذا له أن يدخلها غير محرم.
قال: [لأنا لو ألزمناه الإحرام لأفضى إلى أنه لا يزال محرماً فيشق ذلك عليه].
يعني: لو قلنا له: لابد أن تحرم فسيظل على إحرامه لا يخلعه أبداً؛ لأنه في عمل؛ إما أنه ذاهب إلى مكة أو قادم من مكة، فلا يلزمه الإحرام هو ومن كان على شاكلته.
قال المصنف: [ثم إذا أراد النسك أحرم من موضعه].
أي: أن الحطّاب والساقي يحرم من موضعه.
قال الشارح: [لأن هذا لم يكن الإحرام من الميقات عليه واجباً، فكان ميقاته من حيث نوى العبادة؛ بدليل أن المكي يُحرم من مكة في الحج؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس: (وكذلك أهل مكة يهلون منها) متفق عليه].
قال المصنف: [وإن جاوزه غير محرم رجع فأحرم من الميقات] وهذه نقطة مهمة يسأل عنها العلماء في المناسك دائماً.
فكثيراً ما يجاوز الإنسان الميقات وهو لم يحرم، وهذا كثير في الباخرة، وفي الطائرة، وفي البر وبعض الناس يجهلون ذلك، فيدخلون مكة دون إحرام، ولا سيما كثير من النساء لا يخبرهن أحد أن هذا ميقات، أو يحدث أن الحاج أو المعتمر ينسى ملابس الإحرام في الحقيبة، والحقيبة في مخازن الطائرة، والطائرة لن تنزل إلا في جدة، ويقول: أنا نسيت ملابس الإحرام، فماذا أفعل؟ ومعنى ذلك أنه سيمر على الميقات دون إحرام، فما الحكم إذا مر على الميقات دون إحرام؟ سئل أحد الإخوة عن هذا السؤال فقال للسائل: عليه أن يعود إلى الميقات، وكنت جالساً فقلت: يا شيخ! كيف يعود إلى الميقات؟ فإذا كان الرجل من أهل مصر وجاء بطائرة ومع فوج ولن يستطيع أن يعود إلى رابغ مطلقاً، فأفته بما في قدرته، فكونه يعود إلى الميقات قد يعسر عليه.
وهذا كلام نظري صحيح: أن من جاوز الميقات عليه أن يعود إلى الميقات فيحرم منه ولا شيء عليه، لكن إن عجز عن الإحرام من الميقات يحرم من مكانه ويلزمه فدية؛ لأنه ترك واجباً وهو الإحرام.
فالإحرام ركن، والإحرام من الميقات واجب، وفرق بين الركن والواجب، وترك الواجب يُجبر بدم، فإن عجز فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع، هذا في ترك الواجبات أما فعل المحظورات فله فدية أخرى، وهي صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو فدية، فانتبه إلى مثل هذه الأمور.
إذاً: من ترك الواجب في الحج أو العمرة يجبره دم، فإن عجز فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع، وهذه قاعدة مهمة.
فمن ترك المبيت بمزدلفة فعليه دم، لأنه ترك واجباً، وكذلك إن ترك طواف الوداع، وسأذكر الواجبات والأركان، وكذلك إن ترك رمي الجمرات، أو أحرم بعد الميقات، فهذا يستلزم منك أن تعرف الواجب والركن، فمن ترك واجباً في الحج والعمرة فيلزمه فدية، فإن عجز فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع.
قال المصنف: [وإن جاوزه غير محرم رجع فأحرم من الميقات ولا دم عليه؛ لأنه أحرم من الميقات، فإن أحرم من دونه فعليه دم سواء رجع إلى الميقات أو لم يرجع].
أي: أنه إذا لبس الإحرام ولبى بعد الميقات ثم رجع إلى الميقات يلزمه دم؛ لأنه أحرم بعد الميقات.
وإذا نسي الرجل إحرامه في حقيبته وهو في الطائرة فيمكن أن يجعل قميصه رداء وقميصاً آخر يجعله إزاراً، ويكون هذا هو الإزار والرداء إلى أن ينزل في جدة فيأخذ الحقيبة ويغيّر الإحرام، ولا بأس عليه أن يأخذ قميص رجل آخر، وقد يقول قائل: إن القميص فيه خيط، فيجاب بأن المخيط هو ما فُصّل على هيئة الجسد، يعني: يأخذ شكل الجسد، أما لو خلعت القميص ثم جعلته إزاراً فلا يصبح مخيطاً، فيجوز أن يلبس القميص على هيئة إزار أو رداء.
قال الشارح: [لما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ترك نسكاً فعليه دم) روي موقوفاً