أخذ القراءة عرضًا عن نافع بن أبي نعيم، وسمع الزهري، ونافعًا مولى ابن عمر، وروى عنه: الأوزاعي، ويحيى بن سعيد، وأخذ العلم عن ربيعة الرأي، وأفتى معه عند السلطان، وقال مالك: قلَّ رجلٌ كنت أتعلَّمُ منه ما مات حتى يجيئني ويستفتيني.
وكان مالك إذا أراد أن يحدث: توضأ، وجلس على صدر فراشه، وسرَّحَ لحيته، وتمكن في جلوسه بوقار وهيبة، ثم حدَّث، فقيل له في ذلك، فقال: أحبُّ أن أُعَظِّم حديثَ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، ولا أحدث به إلا متمكنًا على طهارة.
وكان يكره أن يحدث على الطريق، أو قائمًا، أو مستعجلًا، ويقول: أحبُّ أن أتفهم ما أحدِّثُ به عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -.
وكان لا يركب في المدينة، مع ضعفه وكبر سنه، ويقول: لا أركب في مدينة فيها جثةُ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مدفونة.
وكان يأتي المسجدَ ويشهد الصلوات والجمعة والجنائز، ويعود المرضى، ويقضي الحقوق، ويجلس في المسجد، ويجتمع إليه أصحابه، ثم ترك الجلوس في المسجد، فكان يصلي وينصرف إلى مجلسه، وترك حضورَ الجنائز، فكان يأتي أهلها فيعزيهم، ثم ترك ذلك كله، فلم يكن يشهد الصلوات في المسجد، ولا الجمعة، ولا يأتي أحدًا يعزيه، ولا يقضي له حقًا، واحتمل الناس له ذلك حتى مات.
وكان ربما قيل له في ذلك، فيقول: ليس كل الناس يقدر أن يتكلم بعذره. وسعي به إلى جعفر بن سليمان بن علي بن عبد اللَّه بن عباس - رضي اللَّه عنهما -، وهو عم أبي جعفر المنصور، وقالوا له: لا يرى أيمانَ بيعتِكم هذه بشيء، فغضب جعفر، ودعا به وجرده، وضربه بالسياط، ومدت يده حتى انخلعت كتفه، وارتكب منه أمرًا عظيمًا، فلم يزل بعد ذلك الضرب في علو ورفعة، وكأنما كانت تلك السياط حليًا حُلِّي به.