يحدث الناس بجامعها، ورحل الناس من البلدان إليه، وكثر سماعهم عليه. وكان عالمًا بالحديث وطُرقه، عارفًا بعلله وأسماء رجاله ونَقَلَته، وكان حافظًا لمصنفات الحديث، قائمًا عليها، ذاكرًا لمتونها وأسانيدها ورواتها، وكتب منها "صحيح البخاري" في سفر، و"صحيح مسلم" في سفر، وكان قائمًا على الكتابين مع "سنن الترمذي"، وفُقد في فتنة كندة سنة 514، وذكر غيرُ واحد: أنه حدث ببغداد بحديث واحد، وهو من أبناء الستين. ذكر له سليم الخوري في "آثار الأدهار" والمَقَّري في "نفح الطيب" ترجمة توافق ما ذكرنا في هذا الموضع، مع زيادة يسيرة.
صاحب "ريحانة الألباء وزهرة الحيوة الدنيا"، حامل عَلَمِ العلم وناشرُه، وجالب متاع الفضل وتاجرُه. كان ممن شُدت إليه مسألة الكمال رحالَها؛ إذ ورث من سماء المعالي بدرها وهلالها، وحوى طارفها وتليدها، وأرضعَ من در الفنون كهلَها ووليدها، وسفرت له خرائد العلوم رافعة النُّقُب، وتزينت بمنظومه ومنثوره صدورُ المجالس والكُتب.
حرر لنفسه ترجمة في كتابه "الريحانة"، وقال ما ملخصه: كنت بعد سن التمييز في مغرس طيبِ النبات، عزيزًا في حَجْر والدي، ممتعًا بذخائر طريفي وتالدي، مربًّى بغذاء على الظاهر والباطن، في النعيم المقيم بأرفع المساكن، فلما درجتُ من عُشِّي، قرأت على خالي علوم العربية، ثم ترقيت فقرأت المعاني والمنطق وبقية علوم الأدب الاثني عشر، ونظرت كتب المذهبين - مذهب أبي حنيفة والشافعي - مؤسسًا على الأصلين من مشايخ العصر، ومن أجل من أخذت عنه: شيخ الإسلام الشمس الرملي، حضرت دروسه الفرعية، وقرأت عليه شيئًا من "مسلم"، فأجازني بذلك، وبجميع مؤلفاته ومروياته بروايته عن شيخ الإسلام القاضي زكريا الأنصاري، وعن والده، ومنهم: العارف بالله الشيخ نور الدين الزيادي - زاد الله حسناته -، حضرت دروسه زمانًا طويلاً، ومنهم: العلامة علي بن غانم المقدسي الحنفي، قرأت عليه الحديث، وكتبَ لي إجازة