منه إلى كلام الأعراب البدويين الذين يعرفون طبائع اللغة وطرائق التعبير عن المعاني بالطبع والسليقة. ومنه قول بعض العرب:

فغنها، وهي لك الفداء ... إن غناء الإبل الحداء

والمعروف أن الإبل تنشط في سيرها بالحداء أي الغناء، فعندما قال الشاعر غنها يشتد سيرها ويزداد نشاطها أصبح السامع مترقبًا للخبر، فتستشرف نفسه لمعرفته، ولذلك ورد الخبر مؤكدًا: "إن غناء الإبل الحداء". ومنه أيضًا قول أبي نواس:

عليك باليأس من الناس ... إن غنى نفسك في الياس

فالشطر الأول يلوح بالخبر الذي تضمنه الشطر الثاني، ولذلك تطلعت نفس السامع إلى معرفة السبب وراء هذه النصيحة بالزهد في دنيا الناس، وعدم التعلق بالأمل المرجو منه، فكان الجواب: "إن غنى نفسك في الياس"، مؤكدًا بإن، التي تفيد ربط الجملة الثانية بما قبلها، وتجعل الكلام جيد السبك متلاحم الأجزاء قوي التأثير. الصورة الثالثة من صور إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر: تنزيل غير المنكِر منزلة المنكِر، وذلك إذا ظهر عليه شيء من أمارات الإنكار، فيؤكد له الخبر، كقول الشاعر:

جاء شقيق عارضًا رمحه ... إن بني عمك فيهم رماح

فشقيق لا ينكر قوة بني عمه، وأنهم يملكون آلات القتال وأدوات الحرب من الرماح وغيرها، ولكن مجيئه هكذا مزهوًّا بشجاعته واضعًا رمحه على عرضه من غير تهيؤ للقتال دليل على إعجاب شديد منه، وإمارة أنه يعتقد أن بني عمه عزل لا سلاح معهم، ولذلك نزله الشاعر منزلة المنكر، وخاطبه خطاب التفات في

طور بواسطة نورين ميديا © 2015