فيخبرهما، وينشدهما، ويكتبان عنه متواضعين له، حتى يأتي وقت الزوال ثم ينصرفان. فأتياه يومًا فقالا: ما هذه القصيدة التي أحدثتها في ابن قتيبة؟ قال: هي التي بلغتكما. قالا: بلغنا أنك أكثرت فيها من الغريب. قال: نعم، إن ابن قتيبة يتباصر بالغريب، فأحببت أن أورد عليه ما لا يعرف. قالا: فأنشدناها يا أبا معاذ. فأنشدهما:
بكرا صاحبي قبل الهجير ... إن ذاك النجاح في التبكير
حتى فرغ منها، فقال له خلف: لو قلت يا أبا معاذ مكان "إن ذاك النجاح" "بكرا فالنجاح" كان أحسن. قال بشار: إنما بنيتها أعرابية وحشية. فقلت: إن ذاك النجاح كما يقول الأعراب البدويون، ولو قلت: بكرا فالنجاح كان هذا من كلام المولدين، ولا يشبه ذلك الكلام، ولا يدخل في معنى القصيدة في شيء. قال: فقام خلف فقبل بين عينيه. فهل كان ما جرى بين خلف وبشار بمحضر من أبي عمرو بن العلاء، وهم من فحولة هذا الفن إلا للطف المعنى في ذلك وخفائه؟ ". كذا ذكر الخطيب في (الإيضاح). ولا يخفى عليك أن الهجير هنا هو الوقت من زوال الشمس إلى العصر أو شدة الحر، وأن الشاهد في البيت أن الشطر الأول يلوح بالثاني، ولذلك جاء بالثاني مؤكدًا بإن، وأن التوكيد بإن قد رفع من شأن الكلام، وأضفى عليه روعة وجمالًا، فقد ارتبط الشطر الثاني بالشطر الأول ارتباطًا قويًّا وتلاءم معه حتى كأن الكلامين قد أفرغا إفراغًا واحدًا، وكأن أحدهما قد سبك في الآخر، كذا في (الدلائل).
أما قوله: "بكرا فالنجاح" فليس فيه سوى تأكيد الأمر بالتبكير عن طريق التكرار، وهذا أمر واضح لا دقة فيه، ولا خفاء، فهو إلى كلام المولدين أقرب