فمن الواضح أن هذه الآيات تسوق الدلائل المتعددة على قدرة الله تعالى بغية الوصول إلى أن الله قادر على كل شيء، وهو لذلك جدير بالعبادة وحده، وقد أوردت الآيات هذه الدلائل في أسلوب هادئ النبرات، يخاطب العقل والعاطفة معًا، ويشف عن معناه، كما يشف الروض عن عبيره؛ ولذلك جاء مقنعًا للذين يتفكرون ويعقلون. وما اختلاف أسلوب السور المكية عن السور المدنية إلا صدى لاختلاف طبيعة الموقف في مكة عنه في المدينة، فالإسلام في مكة كان يواجه أعتى قوى الشرك في محاولة مضنية لاقتلاع جذور الباطل بشتى صوره في تلك البيئة، ليرسي دعائم التوحيد على أساس سليم؛ لذلك اتسم أسلوبه في مكة بالقوة والحزم في مواجهة المشركين. أما في المدينة، فإن الوضع قد اختلف حيث توطدت أركان الإسلام، وأصبحت له دولة وساد جو الاستقرار الذي يسمح بتنظيم العلاقات الاجتماعية والسلوكية بين أفراد المجتمع الجديد. ولذلك أخذ القرآن يرشد المؤمنين إلى آداب السلوك، ويوجههم إلى الخير والصلاح، وذلك وضع يستدعي الأسلوب الهادئ المقنع الذي يصل إلى أغوار النفوس؛ ولذلك كان القرآن مثلًا أعلى للبلاغة العربية في أرقى مظاهرها، وأروع سماتها.

وبذلك يتبين لنا أن الكلام الذي يوصف بالبلاغة هو الذي يشتمل على خصائص في الصياغة وأوضاع في النظم، بها يكون الكلام وافيًا ومطابقًا للمقام الذي ورد فيه، فلا بد من مراعاة هذه الأحوال والمقتضيات، والملاءمة بينهما حتى يرتقي الكلام، ويزداد حسنًا وجمالًا، ويكتسي رونقًا وبهاء، ويكون له تأثيره الفعال في نفوس المخاطبين، أما مجرد التعبير عن المعنى بعبارات تليق به دون مراعاة للخواص والمزايا التي يقع بها التفاضل في الكلام الأدبي الرفيع، فليس من البلاغة في شيء؛ لأن الغرض منه مجرد تأدية أصل المعنى بعبارات تدل عليه، دون أن تترك أي أثر في نفوس السامعين. والمعروف أن الأدب نوع من التواصل

طور بواسطة نورين ميديا © 2015