الموضع الثاني من مواضع الفصل بين الجمل: كمال الانقطاع بلا إيهام، وهو أن يكون بين الجملتين تباين تام وانقطاع كامل، ويرجع ذلك إلى اختلافهما إنشاء وخبرًا، لفظًا ومعنى، أو معنى فقط، أو إلى فقدان المناسبة بينهما، ويجب أن تعلم أن البلاغيين لا يجوّزون بهذا تفكيك الكلام وتنافر جمله وعدم ارتباط أجزائه وتباعد معانيه؛ بحيث لا يضمه سياق ولا يجمعه قِران، كما أنهم لا يقصدون بكمال الانقطاع جواز الجمع بين الجمل المتشاردة؛ لأن هذه الجمل لا يضمها سياقٌ واحد ولا يجمعها قران واحد، سواء أعطفت أم لم تُعطف، وإنما يريدون به فقدان المناسبة الخاصة التي تسوغ العطف وتجوز الوصل. ذكر البلاغيون أن كمال الانقطاع إنما يتحقق في ثلاث صور:
الصورة الأولى: أن تختلف الجملتان خبرًا وإنشاءً، لفظًا ومعنى، كما في قوله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (فصلت: 34) فالجملة الأولى {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} خبرية لفظًا ومعنى، والجملة الثانية {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} إنشائية لفظًا ومعنى، والفصل بينهما لا يوهم خلاف المقصود؛ ولذا وجب الفصل بينهما، ونظير ذلك قوله تعالى: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الحجرات: 9) وقوله عز وجل: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} (الأنعام: 101) وقوله: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأنعام: 99) فقد فُصل بين الجمل في هذه الآيات الكريمة لاختلافها إنشاءً وخبرًا، لفظًا ومعنى؛ ولأن الفصل بينها لا يُوهم خلاف المقصود.