وتأمل معي الآيات الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (الحشر: 18)، وقوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} (البقرة: 198)، وقوله: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} (آل عمران: 42)، وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (الرعد: 5)، وقوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (لقمان: 5)، فإنه لا يخفى عليك مجيء الواو في هذه الآيات بين جملٍ بينها قوة ترابط وشدة تلاحم وكمال اتصال، وأن هذا المجيء يُنبئ بمعانٍ دقيقة وأسرار لطيفة، فتكرار الأمر بالتقوى وعطف أحدهما على الآخر، يؤذن بأن الأمر الثاني غير الأول، ووراء ذلك إعلاء بشأن التقوى وحث عليها، وكذا وصل الأمرين بالذكر: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} {وَاذْكُرُوهُ} إعلاء لشأن الذكر وحض عليه، وكأن الأمر الثاني غير الأول، وفي عطف الاصطفاء على الاصطفاء: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ} إيهامٌ بأنهما متغايران، وكأن الله اصطفاها أولًا، ثم رجع فاصطفاها ثانيًا، وفي هذا مزيد تكريم.
ومثله عطف الفلاح على الهدى في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى} (البقرة: 5) {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وفي آية الرعد أبرزت الواو ثلاث صور متغايرة للذين كفروا، في كل صورة منها من البشاعة والشناعة ما يجعلها شيئًا قائمًا برأسه مستقلًّا عن غيره. وهكذا، يتضح لنا أن مجيء الواو بين الجمل التي قد اشتد ترابطها وقوي تلاحمها وكمل اتصالها، وراءه من الأسرار واللطائف ما لا يخفى على المتأمل الواعي والناظر الدقيق.