ومن ذلك قول الله تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (المائدة: 75) فالنصارى يعتقدون أن الله حلّ في عيسى، وأنه يخلد؛ فكفرهم الله -عز وجل: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} (المائدة: 72) فقلب -جل وعلا- لذلك اعتقادهم: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} (المائدة: 75) فالمسيح مقصور على كونه رسولا يخلو كما خلت الرسل من قبله، ولا يتجاوز ذلك إلى كونه إلها كما اعتقده الكفرة؛ ولذا فالقصر في الآية الكريمة قصر قلب، وتأمل قول أبي تمام:
والعلم في شهب الأرماح لامعة ... بين الخميسين لا في السبعة الشهب
تجده قد قصر العلم على كونه في قوة الجيش والعتاد، ونفاه عن كونه في علم المنجمين الذين نصحوا المعتصم بألا يُقبل على الجهاد في ذلك الوقت؛ لأن النجوم بزعمهم تنبئ بأن يتريث ولا يتعجل، ولكن المعتصم لم يعبأ بما قالوا وأقبل إلى الجهاد فانتصر وفتح عمورية. وأنشد أبو تمام هذه القصيدة مشيدًا بنصره ومشيرًا إلى قصور علم المنجمين، فالقصر في البيت المذكور قصر قلب؛ لأنهم اعتقدوا أن العلم في السبعة الشهب، لا في قوة الرماح والجيش، فنفى أبو تمام هذا وأثبت عكسه كما ترى.
النوع الثاني من أنواع القصر باعتبار المخاطب: قصر الإفراد، وهو تخصيص أمر بأمر دون آخر، ويُخاطب به من يعتقد الشركة، كقولك: محمد الجواد لا علي، لمن اعتقد أنهما يشتركان في صفة الجود، ومنه قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} (المائدة: 73) فهم يعتقدون الشركة، وأن الله ثالث ثلاثة، وأفاد