واقرأ معي في ذلك الآية من أولها، يقول فيها جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: 27، 28)، ولذا كانت خشية الله مقصورة على العلماء دون غيرهم؛ لأن خشية غيرهم لا يُعتد بها في هذا المقام، وليست هي بمنزلة خشية العلماء، ومن هذا قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} (المائدة: 25) فقد أثبت موسى -عليه السلام- ملكيته لنفسه ولأخيه، ونفاها عن كل ما عداهما، والمراد لا أملك في سبيل الله والدفاع عن كلمة الحق إلا نفسي وأخي، والسياق يرشد إلى أنه كان هناك رجلان يخافان الله، قد أنعم الله عليهما بالإيمان، ولكن موسى لم يعتد بإيمانهما؛ نظرًا لتقلب قومه وتغير أحوالهم؛ ولذا قال: {فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} (المائدة: 25).
ومن ذلك قولنا: ما شاعرٌ إلا زهير، وما الرثاء إلا رثاء الخنساء، فقد بنى القصر على الادعاء والمبالغة وبعدم الاعتداد بغير زهير في الشعر وبغير الخنساء في الرثاء الحزين المؤلم، ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها)) فقد قصر الحسد بمعنى الغبطة على هاتين الصفتين، ونفى ما عداهما ادعاءً ومبالغة، هذا كلام البلاغيين، لكن بحق ما جاء في كلام الله وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- لا يليق أن نستخدم كلمة ادعاءً، والسر في هذا الحديث الأخير أن الغبطة تكون في غير الاثنتين المذكورتين ولكنه نزل غيرهما منزلة العدم على سبيل الادعاء. هذا والقصر الادعائي كثير في كلام العرب، ويرد في مقامات المبالغة والمدح والتعظيم، نحو قولهم: ما مؤدب إلا فلان، ما عالم إلا فلان، ما شاعر إلا امرؤ