الثاني عليه هذا الحذف ينبئ بآلام الشاعر وضيقه، وكأنه يأبَى أن يصرح بنسبة الرضا إليهم في اللفظ؛ فهم مقتنعون بصواب رأيهم غير راضين بما حكم به مالك ذو الرأي والعقل، فحذف المسند يبرز لك حالتهم تلك.

وانظر إلى قول المتنبي:

قالت وقد رأت الصراري مَن به ... وتنهدت فأجبتها المتنهد

يريد: لما رأت حالي وما وصلت إليه بسبب حبها، تساءلت متنهدةً: مَن فعل بك هذا؟ ومن وراء حالتك هذه؟ فأجبتها: المتنهد، أي: فعل بي ما ترين أنت، فأنت الذي أهواها. الشاعر قد حذف المسند وطواه، فلم يقل: صنع ما ترين المتنهد، بل قال: المتنهد، والمتنهد: هي السائلة، وكأن ألم العِشق قد أوصله إلى حالة لم يستطع معها أن يكمل الجواب. وكأن الشاعر أيضًا قد أراد بهذا الحذف أن يبادر بذكر المتنهد، وأن يفصح لها عن حبه؛ فهي التي بلغت به إلى تلك الحالة، وقد وجدها فرصة عندما سألته: من به؛ لكي يسارع هو بالإفصاح عن حبه، فحذف المسند يحقق تلك المسارعة. ولو ذكره فقال: فعل هذا بي المتنهد، لكان هناك تباطؤ في الإعلان عن حبه. ولا يخفَى عليك ما وراء الالتفات في البيت من دلالة المحب، وتمنعه. فهي تخاطبه ولم تقل له: مَن بك؟ بل التفتت. فقال: من به؟ دلالًا وتمنعًا.

وقيل: المسند المحذوف: اسم، والمعنى: من المطالب به، فأجبتها: المتنهد، أي: المطالب به. وعندئذٍ يكون الضمير في به عائدًا إلى الاصفرار، فلا التفاتَ. وقد يفيد حذف المسند تعظيم المسند إليه، على نحو ما ترى في قول الله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} (التوبة: 74). وقوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} (التوبة: 62).

طور بواسطة نورين ميديا © 2015