وكان الخليفة عثمان -رضي الله عنه- قد حبَسَه في المدينة؛ لهجائه بني نهشل، ورميه أمهم. فضاق ضابئ بسجنه، وقال معبرًا عن آلامه وواصفًا ومصورًا أحزانه:
ومن يك أمسى بالمدينة رحلُه ... فإني وقيار بها لغريب
رحله: يعني: منزله ومأواه، وقيار: اسم فرسه، وقوله: فإني وقيار بها لغريب، محل الشاهد هو: من عطف الجمل. كذا ذكره في (الإيضاح). فقد أراد الشاعر هنا أن يبين عما في نفسه من أن من أمسى بالمدينة مستقرًا له منزله الذي يأوي إليه، وأهله وأصحابه الذين يأنس بهم، ويسكن إليهم، طابت نفسه، وحسن حاله، ورضي بعيشته، أما أنا وقيار فإنا بها لغريبان، وأنَّى للغريب أن يسعد ويهنأ، فالشاعر حزين مكروب؛ قد ضاق صدره لغربته وحبسه، وتتجدد آلامه كلما تذكر مع الذنب الذي ارتكبه الأهل والأصحاب والمنزل الهنيء، وكلما مر بخياله الانطلاق والحرية، ولذا تراه قد طوى المسند إلى قيار في الشطر الثاني، وتقديره: فإني لغريب بها وقيار، غريب بها أيضًا، فطيه: ينبئ بالحال الكئيبة التي يعيشها، فهو -كما تراه- قد طوى جواب الشرط، وتقديره: ومَن يك أمسى بالمدينة رحله فهو مسرور طيب النفس، مستريح البال، طواه لنفس السبب، وكأن الكلمات لا تسعفه؛ كي يذكر جواب الشرط وخبر قيار، ثم كيف يذكر الجواب وهو من جنس السعادة والهناء. إن لسانه ليتوقف عاجزًا عن النطق به؛ لأن في الإفصاح عنه زيادة لآلامه وأحزانه.
وتأمل؛= كيف قدم قيارًا، فقال: وإني وقيار، ولم يقل: فإني لغريب بها وقيار؛ وذلك للإشارة إلى أن قيارًا ولو لم يكن من جنس العقلاء قد بلغه هذا الكرب، واشتدت عليه تلك الغربة حتى صار مساويًا للعقلاء في التشكي منها، ومقاساة شدائدها. فتقديم قيار وإقحامه بين جزئي الجملة ينبئ بالتسوية بينهما في التحسر،