فتقديم المسند إليه يدل على أن الشعر ثابت، ولكن الشاعر يريد أن ينفي عن نفسه أن يكون القائل له وحده، ويثبت أن فضائل الممدوح ومحاسنه كان لها الفضل في كثير منه؛ لأنها الملهمة فكأنها القائلة.
هذا؛ وإذا كانت التراكيب المذكورة التي تقدم فيها المسند إليه على خبره الفعلي مسبوقًا بنفي مقيدة لنفي الحكم عن المسند إليه وإثباته في الوقت نفسه لغيره إذا كان ذلك كذلك، فينبغي أن تعلم أن نفي الحكم عن المسند إليه إنما يدل عليه منطوق العبارة -ي عني: ألفاظها - أما ثبوته لغيره فهو المعنى المفهوم منها والمفاد من معناها وفحواها، ولهذا لا يصح أن يقال مثلًا: ما أنا قلت هذا الشعر وحدي ولا غيره؛ لأن منطوق "لا غيري" يتناقض معناه مع مفهوم العبارة المذكورة؛ إذ إ ن المفهوم ما أنا قلت هذا الشعر ثبوته للغير، ومعنى "لا غيري" نفيه عني وهما بذلك متنافيان.
كما ينبغي أن تعلم أن ثبوت الحكم يجب أن يكون على الوجه الذي انتفى به عن المسند إليه من العموم والخصوص، كما يقتضي التخصيص، فإذا كان المنفي عن المسند إليه خاصًّا كان الثابت لغيره كذلك كما في قولك مثلًا: ما أنا قلت هذا الشعر، انتفى فيه عن المسند إليه شيء خاص هو قول شعر معين، فيجب أن يثبت لغيره قول هذا الشعر بعينه؛ تحقيقًا لمعنى الاختصاص، وإن كان المنفي عن المنسد إليه عامًّا كان الثابت لغيره كذلك، ولهذا لا يصح أن يقال: ما أنا رأيت كل رجل، ولا: ما أنا ضربت كل رجل إلا زيدًا، وثبوت الرؤية أو الضرب على هذا الوجه محالٌ؛ إذ ليس في طوق إنسان أن يرى جميع الرجال أو أن يضرب كل الرجال.