والخَطْب في ذلك سهل، فاتباع الاستعمال الوارد عن العرب بحذف المسند إليه لم يجب علينا لغرض بلاغي جديد، ولكن هذه الأساليب عندما قيلت في مقاماتها الأولى، كان الداعي إلى الحذف فيها أغراضًا بلاغيةً في الأساس أوضحها الاختصار والإيجاز وهو قيمة عظيمة وفضيلة من فضائل الكلام جليلة؛ لأن المتكلم بها في هذه المقامات هم العرب الذين لا يتصرفون في كلامهم بحذف أو ذكر اعتباطًا، ف هم أرباب الصناعة العربية، وأعرف الناس بأسرارها.
إذا كان الأمر كذلك، أدركنا أن الحذف في هذه الأساليب كان ابتداءً لغرض بلاغي، بدليل أن ما نحسه عند حذف المسند إليه من جمال القول وقوته نستشعره عند ذكره، ولهذا إذا تكلمنا بشيء من هذا الوارد عن العرب على حذف المسند إليه، وجب عليهم أن نتبعهم في حذف ما حذفوا؛ لأننا لا نأتي بمثيل هذه الأساليب إلا في مقام تُشابه مقاماتها الأُولَى التي قيلت فيها؛ فلكي تظل محتفظة بقيمتها البلاغية وغرضها الداعي للحذف أولًا، وجب علينا بلاغةً أيضًا أن نذكرها في مقامها الثاني المشابه للأول على النحو الذي ذكرت به أولًا من حذف المسند إليه، فيتحقق بذلك ثانيًا ما تحقق أولًا.
إلى غير ذلك من الدواعي والأسرار التي تقتضي حذف المسند إليه، ولا يمكننا أن ندعي حصرها أو الإحاطة بها، ولكننا نتناولها صورًا لعلها تهدينا إلى طريقة النظر في مثل هذا الباب، فالذي يتأمل الأساليب ويسترشد بالسياق وقرائن الأحوال، قد تتكشف له أسرار سوى ما ذكر، ويقع على أغراض ونكات لم تدون من قبل، والأمر أولًا وآخرًا مبني على الذوق وتلمس أسباب الحذف.