انظر إلى قول الله تعالى: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} (مريم: 4) تجد أن الآية أسند ت: {اشْتَعَلَ} إلى: {الرَّأْس} إسنادًا مجازيًّا؛ لعلاقة المكانية، إذ الرأس مكان للاشتعال، والذي يفعل الاشتعال حقيقة إنما هو الشعر، ولفظ المسند: {اشْتَعَلَ} مجاز لغوي؛ إذ المراد به ظهور شيب الرأس، فاستعير الاشتعال للظهور، وتفيد هذه الاستعارة عموم الشيء وإحاطته بجميع الرأس، كما تفيد المفاجأة في ظهور الشيء، فهو اشتعال وليس ظهورًا، وتفيد أيضًا حب زكريا -عليه السلام- لهذا الشيء حيث أحس به إحساسًا مشرقًا مضيئًا، الذين يصورون ظهور الشيب بالرأس تصويرًا حزينًا مؤلمًا، إذ يكون سببًا في فراق الأحبة وابتعادهن.
انظر مثلًا إلى قول القائل:
لا تعجبي يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكَى
وإلى قول الآخر:
ل هـ منظر في العين أبيض ناصع ... ولكنه في القلب أسود أسفع
والأسفع: الأبيض الناصع شديد البياض، والأسود الأسفع: هو الأسود المائل إلى حمرة، وقد استعير الأسود الأسفع لما يحدثه الشيب من الهم والحزن، فإنك تجد أنهم يشعرون بالشيب شعورًا حزينًا كئيبًا؛ لأنه يؤذن بتولي الشباب ويعلن عن فراق الحبيبات.
ونعود إلى المجاز العقلي لننظر في شواهد هذه الصورة التي وقع التجوز فيها في المسند وفي الإسناد، نجد منها قولهم: سال بهم الواد، حيث استعير السيلان للسيل، ثم اشتق منه سال بمعنى سار على سبيل الاستعارة التبعية، وأسند سال إلى الوادي إسنادًا مجازيًّا لعلاقة المكان، ويفيد هذا التجوز المبالغة في سرعة سير القوم، وكأن المكان قد فاض بهم ودفع، ومثله قول الشاعر:
فقدنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح