الأستاذ أحمد أمين: "كان المدونون الأولون للغة في هذا العصر يدونون المفردات حيثما اتفق، وكما يتيسر لهم سماعها. فقد يسمعون كلمة في الفرس، وأخرى في الغيث، وثالثة في الرجل القصير، وهكذا. فكانوا يقيدون ما سمعوا من غير ترتيب"1.
وبعد ذلك اتجه أهل اللغة إلى التبويب والتصنيف والتقسيم ورد النظير إلى النظير، كل بطريقته الخاصة التي رآها. فمنهم من صنف المادة اللغوية بحسب الموضوعات، مثل النبات والشجر والإبل والخيل والسلال والأنواء، وأخرجها في شكل رسائل منفصلة. ومنهم من اتجه إلى الشعر الجاهلي أو الإسلامي يدونه ويرويه ويشرح مفرداته الصعبة.
ومنهم من اهتم بتسجيل بعض الظواهر الخاصة التي لاحظها في بعض القبائل ... وهكذا. وتوجت هذه الجهود بظهور المعاجم اللغوية المنظمة التي كان رائدها الخليل بن أحمد "100 - 175 هـ"، وذلك بوضعه معجم "العين" كما سنفصل الحديث فيما بعد.
أما البحث النحوي فلا شك أنه بدأ متأخرًا عن جمع اللغة، لأنه لا يمكن القيام به بدون مادة توضع تحت تصرف النحوي، وبعبارة أخرى لأن تقعيد للقواعد ما هو إلا فحص لمادة لغوية تم جمعها بالفعل ومحاولة لتصنيفها واستنباط الأسس والنظريات التي تحكمها. وأفضل ما يعبر عن ذلك قول عبد اللطيف البغدادي في "شرح الخطب النباتية" فيما نقله السيوطي عنه: "اعلم أن اللغوي شأنه أن ينقل ما نطقت به العرب ولا يتعداه. وأما النحوي فشأنه أن يتصرف فيما ينقله اللغوي ويقيس عليه، ومثالهما المحدث والفقيه، فشأن المحدث نقل الحديث برمته، ثم إن الفقيه يتلقاه ويتصرف فيه ويبسط فيه علله ويقيس عليه الأشباه والأمثال"2.