ومع ذلك فنحن نسمع عن إشارات أو أحكام سريعة تمت في وقت مبكر جدًّا لا يتجاوز النصف الثاني من القرن الأول الهجري كتلك التي قام بها أبو الأسود الدؤلي أو علي بن أبي طالب أو غيرهما.

وفي رأينا أن النحو العربي قد نشأ فنًّا قبل أن يكون علمًا، أي: أن هذه الطرق الخاصة بالأداء في اللغة قد التزمت باطراد في تراكيبها وأساليبها ومرنت عليها ألسنة العرب، وتمكنت من طبائعهم قبل أن توضع لها القواعد النحوية.

ولهذا فنحن نستبعد تمامًا ما يقوله ابن فارس من أن علم النحو في اللغة العربية قديم بقدمها ومنزل كتنزيلها، وأنه كان معروفًا ومدروسًا من قديم، ثم تنوسيت قواعده وأتت عليها الأيام حتى جاء أبو الأسود الدؤلي فأحيا ما اندثر منه1: ولا نرى رأيه أن اللغة العربية قد وجدت أول ما وجدت وفيها تلك الظواهر الفنية، أو أن تكون قد عرفت أول ما عرفت وهي متميزة بضوابط الإعراب المختلفة.

وإنما الذي نراه أن اللغة العربية لا بد أن تكون قد مرت بمراحل من الاضطراب وعدم الاستقرار، وأن هذه الضوابط المتبعة في الأداء قد سلكت طريقًا طبيعيًّا في التكوين، كما تسلك اللغة نفسها هذا الطريق، فكانت في أول الأمر بسيطة غير مطردة ولكنها مع الزمن قد تمت وعمت والتزمت واستقرت في النفوس على وجه يجعلها ملكة أو ما يشبه الملكة، وجرى أهلها على سنن ثابت أو كالثابت في صوغ الكلمة وضبط حروفها وبناء الجمل والأساليب2.

وأغلب الظن أن كثيرًا مما نجده في بطون الكتب القديمة، وفي ثنايا النصوص من أمثلة نحوية وشواهد أدبية خارجة عن تلك القواعد والتي وضعها النحاة ثم التمسوا لها تخريجًا - إن هو إلا بقيا من اللغة العربية

طور بواسطة نورين ميديا © 2015