أخرى إخلاص متنصرة العرب من قبائل الشام لأبناء دينهم من الروم، وعلى الرغم من الاتفاقيات التي عقدها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنفسه إثر غزوة تبوك مع أمراء الشام من أتباع الروم، فإن الروم كانوا لا يكفون عن مناوشة الدولة الإسلامية ومحاولة قص أجنحتها، وبالتالي القضاء عليها، وكان الصديق - رضي الله عنه - متنبها لهذا الأمر جيدًا، وقد تمثل ذلك في إصراره الشديد على إنفاذ جيش أسامة لوجهته، وقد رأى قبائل العرب في شمالي الجزيرة من لخم وغسان وجذام وبلى وقضاعة وعذرة وكلب تعود للانقضاض على عهود رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي أبرمها معها، ومَنْ غير الدولة الرومية يمدهم بوقود المعركة من سلاح ورجال ومال ومخططات؟ وكأنه كان يريد أن يقول للروم بلسان الحال: إنه على الرغم من انتقاض العرب داخل بلادي فإن ذلك لن يفت في عضدنا نحن المسلمين، ونحن قادرون أن نصد عن دولتنا أكبر هجمة عالمية ولو كانت من جانبكم (?).

إن انتقاض الجزيرة العربية جدد الأمل عند الفرس والروم بأن العرب سيقضون على الإسلام، وقدمت الفرس والروم للعرب الثائرين على الحكم الإسلامي كثيرًا من المساعدات, وآوت الفارين منهم، ولذلك لم يكد المسلمون يعيدون الجزيرة العربية إلى وحدتها حتى كان الأوان قد آن للزحف نحو الشمال لمواجهة العدوين الكبيرين اللذين يتربصان بالإسلام (?).

لقد تحرك الصديق من قاعدته الأمينة (المدينة المنورة)، وبعث منها الجيوش وزودها بكل ما من شأنه أن يجعلها ذات هيبة في عيون أعدائها وفي قلوبهم، وقد استطاع الصديق أن يفيض من قاعدته الخير على بقية أرجاء الجزيرة العربية، وما كان له أن ينطلق لفتح بلاد الشام والعراق لولا أنه أمَّن قاعدته الكبرى الجزيرة العربية؛ موالية للإسلام، موحدة على أساسه، وقد تمثل أمن هذه القاعدة في ثلاثة مستويات هي:

أولاً: عزم الخليفة على مواصلة الجهاد وإيمانه الوطيد بصلاحية فكره وتميزه واستعلائه به. وثانيًا: نظافة مجتمعه الأصغر -مجتمع المدينة- من مهاجرين وأنصار. وثالثًا: تطهير مجتمعه الأكبر -وهو المجتمع العربي- من أدران الشرك وعقابيل الردة، وقد أنبتت هذه المستويات بعضها على بعض حتى سما البناء شامخًا قويًا واستطاع أن يرمي به ثغور

طور بواسطة نورين ميديا © 2015