وقرأت بخطِّ بعض المحصِّلين، أنه قاس العمود بقاعدتيه فكان اثنتين وستين ذراعا وسدس ذراع، وهو على جبلٍ طوله ثلاث وعشرون ذراعا ونصف ذراع فصارت جملة ذلك خمسا وثمانين ذراعا وثلثي ذراع، وطول القاعدة السفلى اثنتا عشرة ذراعا، وطول القاعدة العليا سبع أذرع ونصف ذراع، وقاس أيضا المنارة فوجدها مائتي ذراع وثلاثا وثلاثين ذراعا وهي ثلاث طبقات: الطبقة الأولى مربعة وهي مائة ذراع وإحدى وعشرون ذراعا، والطبقة الثانية مثمنة وطولها إحدى وثمانون ذراعا ونصف ذراع، والطبقة الثالثة مدورة وطولها إحدى وثلاثون ذراعا ونصف ذراع، وفوق ذلك مسجد ارتفاعُه نحو عشر أذرع.
ومن ذلك، الآثار التي بمصر القديمة، وهذه المدينة بالجيزة وهي مَنَف التي كان يسكنها الفراعنة وكانت مستقر مملكة ملوك مصر، وإياها عني بقوله تعالى عن موسى عليه السلام: [ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها]، وبقوله تعإلى: [فخرج منها خائفا يترقب] لأن مسكنه عليه السلام كان بقريةٍ بالجيزة قريبة من المدينة تسمى دموة وبها اليوم ديرٌ لليهود، ومقدار خرابها اليوم مسيرة نصف يوم أو نحوه، وقد كانت عامرةً في زمن إبراهيم ويوسف وموسى عليهم السلام،
وقبلهم بما شاء الله تعالى، وبعدهم إلى زمن بختنصَّر، فإنه أخرب ديار مصر وبقِيَت على خرابه أربعين سنة، وسبب خرابه إيّاها أنّ ملكها عصم منه اليهود، حين التجأوا إلى مصر، ولم يمكن منهم بختنصَّر فقصده بختنصَّر وأباد دياره، ثم جاء الاسكندر بعد ذلك واستولى عليهم، وعمَّر بها الإسكندرية وجعلها مقرَّ الملك، ولم تزل على ذلك إلى أن جاء الإسلام ففتحت على يد عمرو بن العاص، وجعل مقر الملك بالفسطاط، ثم جاء المعزُّ من المغرب، وبنى القاهرة وجعلها مقر الملك إلى اليوم، وقد ذكرنا ذلك مشروحا مفصلا في الكتاب الكبير، ولنرجع إلى وصف مَنَف المسمّاة مِصر القديمة:
فهذه المدينة مع سعتها وتقادُمِ عهدها وتداوُل الملل عليها واستئصال الأمم إيّاها، مِن تعفيةِ آثارها ومحو رسومها ونقل حجارتها وآلاتها، وإفساد أبنيتها وتشويه صورها، مُضافاً إلى ما فعلته فيها أربعةُ آلاف سنة فصاعداً تجد فيها من العجائب ما يفوتُ فهم الفَطِن المتأمِّل، ويحسر دون وصفه البليغ اللَّسن، وكلما زدته تأملا، زادك عجباً، وكلما زدته نظراً زادك