طرَباً، ومهما استنبطت منه معنى، أنبأك بما هو أغرب، ومهما استثرت منه عِلما دلذَكَ على أنَّ وراءه ما هو أعظم.
فمن ذلك البيت المسمَّى بالبيت الأخضر، وهو حَجرٌ واحدٌ تسع أذرع ارتفاعاً في ثمان طولا في سبع عرضا، قد حفر في وسطه بيت، قد جُعل سُمك حيطانه وسقفه وأرضه ذراعين والباقي فضاء البيت، وجميعه ظاهرا أو باطنا منقوش ومصور ومكتوب بالقلم القديم، وعلى ظاهره صورة الشمس مما يلي مطلعها وصور كثير من الكواكب والأفلاك، وصور الناس والحيوان على اختلافٍ مِن النصبات والهيئات، فمن بين قائمٍ وماشٍ ومادٍ رجليه وضامِّهما ومشمِّرٍ للخدمة وحاملِ آلاتٍ ومشير بها، يُنبي ظاهر الأمر أنه قصد بذلك محاكاة أمور جليلة، وأعمال شريفة وهيئات فاضلة وإشاراتٍ إلى أسرار غامضة، وأنَّها لم تتَّخَذ عَبَثاً
ولم يُستفرغ في صنعتها الوسع لمجرد الزينة والحُسن، وقد كان هذا البيت مُمكَّناً على قواعد من حجارة الصوان العظيمة الوثيقة، فحفَر تحتها الجهلة والحمقى طمعاً في المطالب، فتغير وضعه وفسد هندامه واختلف مركز ثقله بعضه على بعض فتصدع صدوعا طفيفة يسيرة، وهذا البيت قد كان في هيكل عظيم مبني بحجارة عاتية جافية على أتقن هندام وأحكم صنعة، وفيها قواعد على عَمَدٍ عظيمة، وحجارة الهرم متواصلة في جميع أقطار هذا الخراب، وقد بقي في بعضها حيطان ماثلة تبلك الحجارة الجافية وفي بعضها أساس وفي بعضها أطلال، ورأيتُ عقد بابٍ شاهقا ركناهُ حجرانِ فقط، وأزحجة حجر واحد قد سقط بين يديه، وتجد هذه الحجارة مع الهندام المحكم والوضع المتقن قد حفر بين الحجرين منها نحو شبر في ارتفاع اصبعين وفيه صدأ النحاس وزنجرته، فعلمتُ أنّ ذلك قيودٌ لحجارة البناء وتوثيقٍ لها ورباطات، بينها بابان يجعل بين الحجرين، ثم يُصبُّ عليه الرصاص، وقد تتبَّعها الأنذالُ المغرورون، فقلعوا منها ما شاء الله تعالى وكسروا لأجلها كثيرا من الحجارة حتى يصلوا إليها، ولعمر الله قد بذلوا الجهد في استخلاصها وأبانوا عن تمكُّنٍ من اللؤم وتوغُّلٍ في الخساسة، وأما الأصنام وكثرة عددها وعظم صورها فأمرٌ يفوتُ الوصفَ ويتجاوز التقدير، وأمّا إتقان أشكالها وإحكام هيئاتها والمحاكاة بها الأمور الطبيعية فموضع التعجب بالحقيقة، فمن ذلك صنم ذرعناهُ سوى قاعدته فكان نيِّفاً وثلاثين ذراعاً، وكان مداه من جهة اليمين