وأمّا قلعة الشريف فلم تكن قلعةً بل كان السور محيطاً بالمدينة وهي مبنيّة على الجبل الملاصق للمدينة وسورها دائر مع سور المدينة على ما هي عليه الآن. وكان الشريف أبو الحسن هبة الله الحُتَيتي الهاشمي مقدّم الأجداث بحلب وهو رئيس المدينة فتمكّن وقويت يده وسلّم المدينة لأبي المكارم مسلم ابن قريش. فلما قُتل مسلم انفرد بولاية المدينة وسالم بن الملك العُقَيْلي بالقلعة الّتي بحلب فبنى الشريف فلعته هذه في سنة ثمان وسبعين وأربعمائة خوفً إلى نفسه من أهل حلب لئلا يقتلوه واقتطعها عن المدينة وبنى بينها وبين المدينة سوراً واحتفر خَندقاً آثاره باقية إلى الآن. ولما ملك شمس الملوك ألب أرسلان حلب جرى على قاعدة أبيه في أمر الإسماعيلية لأنه قد بنى لهم بحلب دار دعوه فطلبوا منه أن يعطيهم هذه القلعة فأجابهم إلى ذلك فقبّح عليه القاضي أبو الحسن بن الخشّاب فعله فأخرجهم منها بعد أن قتل منهم ثلاثمائة نفس وأسر مائتين وطيف برؤوسهم في البلد وذلك في سنة ثمان وخمسمائة. ثم خرب السور بعد ذلك لما ملك حلب إبغازي بن أُتُق وذلك في سنة عشرة وخمسمائة.
وجدّد الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن الملك العزيز محمد بن الملك الظاهر غياث الدين غازي بن يوسف بن أيّوب بسور حلب أبرجةً كلّ واحد منها يضاهي قلعةً وذلك في سنة اثنين وأربعين وستُمائة وسبب بنائه لها أنّ التتر لمّا نازلوا حلب وناوشوا أهلها ثمّ رحلوا عنها من غير حصول غرض أخذ في الاستعداد وتحصين البلد. فكانت الأبرجة من باب أربعين إلى باب قنّسرين وذلك من شماليّ حلب إلى قبليّها عدّتخا نيّف وعشرون برجاً ارتفاع كلّ برج فوق الأربعين ذراعاً وسعته ما بين الأربعين إلى الخمسين وكلّ برح له رواقات تستر المقاتل من حجارة والمجانيق والنشّاب وكان السور يشتمل على مائة وثمانية وعشرين ذراعاً وسور القلعة ألف وخمسمائة وخمسة وعشرون ذراعاً وعدّة أبرجها تسعة وأربعون برجاً وأبدانها ثمان وأربعون بدنةَ.
الميدان الأخضر طوله سبعمائة وخمسون ذراعاً وعرضه من القبلة خمسون ذراعاً ومن الشمال سبعون ذراعاً. ميدان باب قنّسرين طوله ألف ومائة وخمسون ذراعاً. ميدان باب العراق طوله خمسمائة وعشرون ذراعاً وعرضه من القبلة خمسة وثمانون ذراعاً ومن الشمال مائة وخمسون ذراعاً.
الباب الخامس في
ذكر عدد أبوابها
فأوّلها ممّا يلي القبلة باب قِنّسرين وسُمّي بذلك لأنّه يُخرج منه إلى جهة قنّسرين ويمكن أن يكون من بناء سيف الدولة لأنّه كان إلى جانبه برج عليه اسمه ثمّ جدّده الملك الناصر يوسف بن الملك العزيز محمّد بن الملك الظاهر غازي بن يوسف بن أيّوب في سنة أربع وخمسين وستّمائة. ونقل إلى بنائه الحجارة من الناعورة من برج كان بها من أبرجة القصر الذي بناه سليمان بن عبد الملك فيها ونقل إليه باب الرافقة وهذا الباب كان أوّلاً على سور عمّورية. فلمّا فتحها المعتصم في سنة ثلاث وعشرين ومائتين نقله إلى سرّ من رأى لمّا شرع في بنائها سنة إحدى وعشرين ثم نُقل من سرّ من رأى لمّا خربت إلى الرقّة وبُني على هذا الباب أبرجة محصنة كالقلاع المرّجلة وعُمل فيها طواحين وأفران وجبات للزيت وصهاريج للماء وحُمل إليها السلاح.
ومن عجائب الاتفاقات ما حكاه لي القاضيان الأجلاّن قاضي القضاة كمال الدين أبو بكر أحمد بن قاضي القضاة أبي محمّد عبد الله بن الشيخ الحافظ عبد الرحمان الأسدّي المعروف بابن الأستا وقاضي القضاة مجد الدين عبد الرحمان ابن الصاحب كمال الدين أبي القاسم عمر بن أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة المعروف بابن العديم قالا: قصدنا في بعض الأيام زيارة الشيخ الصالح العابد الزاهد العالم العامل شرف الدين أبا عبد الله محمّد بن موسى الحورانيّ بظاهر حلب. فاتّفق عند اجتماعنا به وصول باب الرقة ليُركَّب على باب قنسرين فأجرينا ذكره فقال لنا يوم فروغ هذا الباب: ينزل على المدينة من يأخذها ويخرب هذا الباب وسائر البلد. فجرى الأمر على ما ذكر. ولمّا استولت التتر على حلب كان أوّل ما خرِب منها. ثمّ لمّا أخرجت التتر عنها وملكها الملك الظاهر أبو الفتح بيبرس نُقض حديده المصفّح به ومساميره وحّمل إلى دمشق ومصر.