قال القاضي بهاء الدين المعروف بابن شدّاد فيما أجازني به من المنقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه قال: لا تقوم الساعة حتّى تنزل الروم بالأعماق وبدابق فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ. فيكون وجه الاستدلال بهذا الحديث على فضل حلب قوله عم: تنزل الروم بالأعماق وبدابق فيخرج إليهم من المدينة من خيار أهل الأرض ذكره بحرف الفاء. وإنّها للتعقيب. والمدينة المذكورة التي يخرج منها الجيش هي حلب لأنها أقرب المدن إلى دابق إذ ليس في تلك الناحية ما يطلق عليه اسم المدينة على الإطلاق غير حلب لا على يثرب كما في قوله تعالى:) وَجاءَ منْ أقْصَى المدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى (وفي قوله تعالى:) وَأَمّا الجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتيمَنِ في اَلمدِينَةِ (حيث انصرف الإطلاق إلى المدينة الّتي يُفْهَم إرادتها عند الإطلاق. قلتُ: ورد في الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه لمّا همّ بالهجرة من مكّة دعا الله. فقال: " اللهم إن قومي يُخرِجوني من أحب البقاع إليّ فانقلني إلى أحب البقاع إليك " أو ما في معنى ذلك. فنزل عليه جبرائيل عم وقال له::إن الله تع يخبرك أن تهاجر إلى يثرب أو إلى البحرَيْن أو إلى قنّسرين " وهذا غاية الشرف لحلب. الحديث منقول من المشارق للصغانيّ بل في المصابيح. وممّا رواه فخر الدين أبو منصور ابن عساكر من تأريخ عّمه الحافظ أبي القاسم عن معاذ رصه قال: الأرض المقدسة ما بين العريش إلى الفرات وقد جاء أنّ الرعد والبرق يهاجران إلى مهاجر إبراهيم عم لا يبقى قطرة إلا فيما بين العريش إلى الفرات. وقد تقدّم لنا أحاديث كثيرة في فضل الشام بأسره وإذا اعتبرنا الحال في حلب وجدناها منه الواسطة من العقد والقلب من الصدر والإنسان من العين.
الباب الثامن في
ذكر مسجدها الجامع وما بظاهرها من الجوامع
كان موضع الجامع بستاناً للكنيسة العظمى في أيام الروم وكانت هذه الكنيسة تُنسَب إلى قسطنطين باني القسطنطينية وسنذكر أمرها في ما يأتي عند ذكرنا للمدارس ولما فتح المسلمون حلب صالوا أهلها على موضع المسجد الجامع.
وأخبرني بهاء الدين أبو محمّد الحسن بن إبراهيم بن سعيد بن الخشّاب الحلبيّ قال: أخبرني الشريف أبو جعفر الهاشميّ بسند يرفعه إلى أجداده من بني صالح أنّ الجهة الشمالية من الجامع كانت مقبرةً للكنيسة المذكورة.
وأخبر بهاء الدين أيضاً فيما حكاه عنه كمال الدين بن العديم في كتابه قال: قال الفضل بن الإكليلي الحلبي المنجّم إنّ المصنع الّذي في وسط المسجد الجامع لمّل بُني وجدوا في حفيره صورة أسد من الحجر وقد وُضع مستقبلاً بوجهه القبلة.
وقال كمال الدين: سمعتُ عن القاضي شمس الدين أبي عبد الله محمّد بن يوسف ابن الخضر قال: كان جامع حلب يضاهي جامع دمشق في الزخرفة والرخام والفسيفساء.
وبلغني أن سليمان بن عبد الملك هو الذي بناه وتأنّق في بنائه ليضاهي به ما عمله أخوه الوليد في جامع دمشق. وقيل إنّه من بناء الوليد وإنه نفل إليه آلة كنيسة قورص وكانت هذه الكنيسة من عجائب الدنيا. ويقال إن ملك الروم بذل في ثلاثة أعمدة كانت فيها سبعين ألف دينار فلم يسمح الوليد لهم بها.
ويقال إن بني العبّاس نقلوا ما كان فيه من الرخام والآلات إلى جامع الأنبار لمّا نقضوا آثار بني أميّة من بلاد الشام وعفّوها ولم يزل على هذه الصفة إلى أن دخل نقفور حلب في سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة فأحرقه. ولمّا عاد سيف الدولة إلى حلب رمّ بعض ما تهدّم من الجامع ولمّا مات سيف الدولة وتولى ولده أبو المعالي سعد الدولة شريف بنى فيه. وبنى فيه قرغويه مولى سيف الدولة قبّة الفوّارة في وسطه وطول عمودها سبعة أشبار. وفي هذه القبة جرن رخام أبيض في غاية الكبر والحسن يقال إنه كان مذبحاً لبعض الكنائس التي كانت بحلب وفي دور حافة الجرن مكتوب: " هذا ما أمر به قَرغوية غلام سيف الدولة بن حمدان في سنة أربع وخمسين وثلاثمائة ". وبنى فيه الجهة الشرقيّة القضاة بنوا عمّار الذين كانوا أصحاب أطرابلس الشام.