فلمّا كانت ليلة الأربعاء السابع والعشرين من شوّال سنة أربع وستّين وخمسمائة في أيام الملك العادل نور الدين محمد بت زنكي أحرقته الإسماعيلية وأحرقت الأسواق فبناه نور الدين واجتهد في عمارته فقطع له العمد الصفر من بُعادين ونقل إليه عمداً من قنّسرين لأنّ العمد الّتي كانت فيه تفطّرت من النار. وكان النصف القبليّ من الشرقيّة الّتي في قبليّ الجامع الآن الملاصقة لسوق البرّ عن يمين الداخل من الباب القبليّ سوقاً موقوفاً على الجامع ولم يكن المسجد على التربيع. فأحب نور الدين محمود أن يضيف ذلك إلى الجامع فاستفتى في ذلك الفقيه علاء الدين أبا الفتح عبد الرحمان بن محمود الغَزْنَويّ فأتاه بجوازه فنقض السوق وأضافه إلى الجامع واتّسع المسجد وحسن في مرآة العين وشاهدتُ الفتوى بخطّ الغزنويّ. ووقف عليه وقوفاً كثيرةً.
حكى كمال الدين ابن العديم في تأريخه أنّ والده وعّمه أبا غانم قالا: كان بعض السلف من أهل حلب وأعيانها قال والدي من الأجداد وقال عّمي من الأقارب متولّياً أوقاف المسجد الجامع بحلب فجاءه إنسان لا يعرفه فطرق عليه الباب ليلاً ودفع إليه ألف دينار وقال: اصرف هذا في وجه بر ومعروف. فأخذها وأفكر في وجه برّ يصرف ذلك المال فيه فوقع له أن يصرفه في عمارة مصنع لخزن الماء من القناة فإن منابيع حلب ماؤها مالح وقد كان العدوّ يطرق مدينة حلب كثيراً فإن قطع منها ماء قناة حَيلان تضرر أهلها تضرراً عظيماً فرأى أن يعمل مصنعاً في صحن الجامع مدفوناً تحت أرضه وأن يوسعه بحيث أن يكون فيه ماء كثير فشرع في ذلك وحفر حفرةً عظيمةً واشترى الحجارة والكلس وعقد المصنع. وفرغ الذهب الّذي حمل إليه ولم يتمّ المصنع فضاق صدره وتقسّم فكرة الطريق الّذي يتوصل به إلى إتمام المصنع. فطرق عليه طارق في الليل فخرج إليه فوجد ذلك الإنسان بعينه فدفع إليه ألف دينار أخرى وقال: أتمم عملك بهذه. فأخذها وتمّم بها عمل ذلك المصنع فجاء في غاية السعة والركانة فيقال إنّه منذ عمل لم يُعرَف أنّه فرغ ماءه ويستعمل منه السقّاءون والناس.
قال: فجعل أهل حلب يطعنون على المولّي للوقف ويقولون: ضيع أموال الجامع. ويسعون فيه إلى صاحب حلب ويقولون: إنه أضاع مال الوقف وأنفق منه في عمارة مصنع جملةً وافرةً. فطالبه بحساب وقف الجامع فرفعه إليه فتأمل فلم يجد ذكر درهم واحداً مماّ غرم المصنع. فقال له صاحب حلب: الغرامة التي غرمتَ على هذا المصنع ما أرى لها ذكراً. فقال: والله ما غرمتُ من مال الجامع عليه شيئاً أصلاً وإنّما هذا ممّن قصد وجه الله تع بما فعل. وقصّ عليه القصَّة. وذكر غير والد الصاحب كمال الدين وغير عمّه أنّ صاحب الواقعة هو ابن الأيسر وأنّه كان يتولّى أوقاف المسجد الجامع يومئذ.
أخبرني بهاء الدين أبو محمّد الحسن بن أبي الظاهر إبراهيم بن أبي البركات سعيد بن يحيى بن محمّد بن أحمد بن الحسن بن عيسى بن الخشّاب أنّ عنّ أبيه القاضي الإمام فخر الدين أبا الحسن محمّد بن يحيى أتمّ عمارة منارة المسجد الجامع بحلب في سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة.
وحكى كمال الدين بن العديم في تأريخه قال: أنبأنا شيخنا العلاّمة أبو اليُمْن زيد بن الحسن الكنديّ عن أبي عبد الله محمّد بن عليّ العظيميّ قال في حوادث سنة اثنين وثمانين وأربعمائة: فيها أسّست منارة جامع حلب وعُمرت على يد القاضي أبي الحسن محمّد بن يحيى بن مجمّد بت الخشاب. وكان بحلب معبد للنار قديم العمارة وقد تحوّل إلى أن صار أتّون حمّام فاضطُرّ القاضي إلى أخذ حجارته لعمارة هذه المنارة. فوشى بعض حساد القاضي خبره إلى الأمير قسيم الدولة فاستحضره وقال: هدمت موضعاً وهولي وملكي. فقال: أيّها الأمير هذا معبد للنار وقد صار أتّوناً وقد أخذتُ حجارته عمّرتُ بها معاً للإسلام يذكَرُ الله عليها وحده لا شريك له وكتبتُ اسمك عليه وجعلتُ الثواب لك. فإن رسمتَ لي أن أغرم ثمنه لك " فعلتُ " ويكون الثواب لي. فأعجب الأمير كلامه واستصوب رأيه وقال: بل الثواب لي وافعل أنتَ ما تريد. وكتب ابن العديم في الحاشية أنّ الواشي أبو نصر بن النحّاس ناظر حلب.