وفي سنة عشرة وستّمائة في الرابع والعشرين من رمضان مُهّدت أرض الخندق الملاصق للقلعة فوُجد فيها تسع عشرة لبنةً ذهباً إبريزاً كان وزنها سبعة وتسعين رطلاً بالحلبيّ والرطل سبعمائة وعشرون درهماً وبنى فيها ساتورةً للماء محكمةً بدَرج إلى العين يمير بها سائر منازلها وبنى ممشى من شماليّ القلعة إلى باب أربعين وهو طريق بآزاج معقودة لا تُسلَك إلا في الضرورة وكأنّه باب سرّ وزاد في حفر خندق القلعة وأجرى فيه الماء الكثير وأحرق في شفير الخندق ممّا يلي البلد مغائر أعدّها لسكنى الأسارى يكون في كلّ مغارة مقدار خمسين بيتاً وأكثر وبنى فيها داراً تُعرَف بدار العزّ وكان في موضعها دار للملك العادل نور الدين محمود بن زنكي تُسمّى دار الذهب ودار تُعرَف بدار العواميد ودار الملك رضوان فحازت كلّ معنى غريب وفنّ عجيب. وفيها يقول الرشيد عبد الرحمان بن النابلسيّ من قصيدة مدحه بها في سنة تسع وثمانين وخمسمائة وأنشده إيّاها. فيها:
دارٌ حَكَتْ دارِينَ في طِيبٍ وَلا ... عِطْرٌ بِساحَتِها وَلا عَطَّارُ
رُفِعَتْ سَماءُ عِمادِها فَكَأَنَّها ... قُطْبٌ عَلى فَلَكِ السُعُودِ تُدارُ
وَزَهَتْ رِياضُ نُقُشِها وبَنَفْسَجٌ ... غَضٌّ وَوَرْدٌ يانِعٌ وَبَهارُ
نُورٌ مِنَ الأصْباغِ مُبْتَهِجٌ وَلا ... نُورٌ وَأزْهارٌ وَلا إزْهارُ
ما أيْنَعَتْ مِنْها الصُخُورُ وَأَوْرَقَتْ ... إلاّ وَفيها مِنْ نَداكَ بِحارُ
وَضَحَتْ مَحاسِنُها فَفي غَسَقِ الدُجى ... يُلفى لِصُبْحِ جَبِينِها إِسْفارُ
منها:
فَتَقَرُّ عَيْنُ الشَمْسِ أَنْ يَضْحَى لَها ... بِفِنائِها مُسْتَوْطَنٌ وَقَرارُ
تَرِبَتْ يَدٌ رَفَّت بِها خَيْلاً لَها ... في غَيْرِ مُعْتَرَكِ الوَغَى إِحْضارُ
وَفَوارِساً شَبَّت لَظَى حَرْبٍ وَما ... دُعِيَتْ نَزالِ وَلَمْ يُشَنَّ مَغارُ
منها:
صُوَرٌ تَرَى لَيْثَ العَرِينِ تِجاهَهُ ... مِنْها وَلا يَخْشَى سَطاهُ صُوارُ
سِلْمٌ إِلى الحَرْبِ القَدِيمِ فآنِسٌ ... بِعَدُوّهِ مَنْ طالَ مِنْهُ نِفارُ
وَمُوَسِّدِينَ عَلى أَسِرَّةِ مُلْكِهِمْ ... سُكْراً وَلا خَمْرٌ وَلا خَمّارُ
لا يَأتَلي شَدْوُ القِيانِ رَواجِعاً ... فِيهِ وَلا نَغْمٌ وَلا أَوْتارُ
هَذا يُعانِقُ عُودَهُ طَرَبَاً وَذا ... دَأْباً يَقَبِّلُ ثَغْرَهُ المِزْمارُ
وهي طويلة جداً فإنّه خرج من هذا إلى ذكر البركة والفوّارة والرخام ثمّ إلى مدح الملك الظاهر فاقتصرتُ منها على ما يُعلَم منه حسن هذه الدار.
وبنى حولها بيوتاً وحجراً وحمّامات وبستاناً كبيراً في صدر إيوانها فيه أنواع الأزهار وأصناف الأشجار وبنى على بابها أزجاً يُسْلَك فيه إلى الدركاوات الّتي قدّمنا ذكرها وبنى على بابها أماكن لكتّاب الدرج وكتّاب الجيش.
ولمّا تزوّج في سنة تسع وستّمائة بضَيْفه خاتون ابنة عمّه الملك العادل الّتي حكمت في حلب بعد وفاته وأسكنها بها وقعت نار عقيب العرس فاحترقت وجميع ما كان فيها من الفرش والمصاغ والآلات والأواني واحترقت معها الزردخاناه وكان الحريق في حادي عشر جمادى الأولى من سنة تسع. قمّ جدّد عمارتها وسمّاها دار الشخوص لكثرة ما كان منها في زخرفتها سعتها أربعون ذراعاً في مثلها.
وفي أيام الملك العزيز محمّد بن الملك الظاهر الغازي وقعت من القلعة عشرة أبراج من أبدانها وذلك في سنة اثنتين وعشرين وستّمائة ووافق ذلك زمان البرد وكان تقدير ما وقع خمسمائة ذراع وهو المكان المجاور لدار العدل ووقع بعض الجسر الّذي بناه الملك الظاهر. فاهتمّ الأتابك شهاب الدين طُغْريل بعمارتها فجمع الصنّاع واستشارهم فأشارهم أن يبني من أسفل الخندق على الجبل ويُصعَد بالبناء فإنّها متى لم تُبنَ على ما وصفنا وقع ما يُبنى عاجلاً وطرأ فيها ما طرأ الآن وإن قصدها عدوّ لم يمنعه فرأى الأتابك أنّ ذلك يحتاج إلى مال كثير ومدّة طويلة فعدل عن هذا الرأي وقطع أشجار الزيتون والتوت وترك الأساس والتراب وبنى. ولهذا لمّا نزلتها التتر لم يتمكّنوا من أخذها إلاّ من هذا المكان لتمكّن النقّابين منه.