اعلم أنّ القلعة الّتي قد قيل إنّ أوّل من بناها ميخائيل وقيل سَلُقوس الّذي بنى مدينة حلب وهي على جبل مشرف على المدينة وعليها سور وكان عليها قديماً بابان أحدهما دون الآخر من حديد وفي وسطها بئر قد حُفر يُنزَل فيه بمائة وخمسة وعشرين مرقاةً قد هُندمت تحت الأرض وجُرفت جروفاً وصُيّرت آزاجاً ينفذ بعضها إلى بعض إلى ذلك الماء وكان فيها دير للنصارى وكانت به امرأة قد سُدّت عليها الباب منذ سبع عشرة سنةً. ثمّ ينحدر السور من جانبَيْ هذه القلعة إلى المدينة.
وقيل لمّا ملك كسرى حلب وبنى سورها كما قدّمنا بنى في القلعة مواضع ولمّا فتح أبو عُبَيْدة مدينة حلب كانت قلعتها مرمَّمة الأسوار بسبب زلزلة كانت أصابتها قبل الفتوح فأخرجت أسوارها البلد وقلعتها ولم يكن ترميماً محكماً فنُقض بعض ذلك وبناه وكذلك لبني أميّة ولبني العبّاس فيها آثار. ولمّا استولى نقفور ملك الروم على حلب في إحدى وخمسين وثلاثمائة كما قدّمنا امتنعت القلعة عليه وكان جماعة من العلويّين والهاشميّين قد اعتصموا بها منه فحمتهم ولم يكن لها حينئذ سور عامر لأنّها كانت قد تهدّمت فكانوا يتّقون سهام العدوّ بالأكُفّ والبرذاع. وزحف نقفور عليها فأُلقي على ابن أخته حجر فمات فلمّا رأى نقفور ذلك طلب الصلح فصالحه من كان فيها.
ومن حينئذ اهتّم الملوك بعمارة القلعة وتحصينها فبنى سيف الدولة منها مواضع لمّا بنى سور حلب. ولمّا ولي ابنه سعد الدولة بنى شيئاً آخر وسكنها وذلك لمّا أتمّ ما بناه والده سيف الدولة من الأسوار وكذلك بنى بها بنو مرداس دوراً وجدّدوا سورها. وكذلك من بعدهم من الملوك إلى أن وليها عماد الدين آق سُنْقُر وولده عماد الدين زنكي فحصّناها وأثّرا بها آثاراً حسنةً. وبنى فيها طُغْدَكين برجاً من قبليّها ومخزناً للذخائر عليه اسمه مكتوب وبنى فيها نور الدين بن عماد الدين زنكي أبنيةً كثيرةً وعمل ميداناً وخضّره بالحشيش وسُمّي الميدان الأخضر. وكذلك بنى بها ولده الملك الصالح باشورةً كانت قديمةً فجدّدها وكتب عليها اسمه ولم تزل في زيادة عمارة إلى أن ملكها الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيّوب وأعطاها لأخيه الملك العادل سيف الدين أبي بكر فبنى بها برجاً وداراً لولده فلك الدين وتُعرَف الآن به.
ولمّا ملك الملك الظاهر غياث الدين غازي حصّنها وحسّنها وبنى بها مصنعاً كبيراً للماء والمخازن للغلاّت وهدم الباشورة الّتي كانت بها وسفّح وتلّ القلعة وبناه بالحجر الهرقليّ وأعلا بابها إلى مكانه الآن وكان الباب أوّلاً قريباً من أرض البلد متّصلاً بالباشورة فوقع في سنة ستّمائة وقُتل تحته خلق كثير ومن جملة من مات تحته الأستاذ ثابت بن شقويق الّذي بنى الحائط القبليّ بجامع حلب الّذي في المحراب الأصغر. وعمل الملك الظاهر لهذا الباب جسراً ممتدّاً منه إلى البلد وبنى على الباب برجَيْن لم يُبْنَ مثلهما قطّ وعمل للقلعة خمس دركاوات بآزاج معقودة وحنايا منضودة وجعل لها ثلاثة أبواب حديد ولكلّ باب منها إسباسلاّر ونقيب وبنى فيها أماكن يجلس بها الجند وأرباب الدولة وكان معلّقاً بها آلات الحرب وفتح في سور القلعة باباً يُسمّى باب الجبل شرقيّ باب القلعة وعمل له دركاه ولا يفتَح إلاّ له إذا نزل دار العدل. وهذا الأب وما قبله انتهت العمارة فيهما في إحدى عشرة وستّمائة.