وكان بعضهم يكاد يضيّع وقتي في التردد عليه, والوقوف ببابه, ثم لا يكون نصيبي منه آخر الأمر إلّا حكايةً معادةً أو قصةً مسرودة، وبعضهم كان من الجهل والانصراف والنسيان بحيث لا يعي شيئًا عن المترجَم له حتى تاريخ وفاته, وقد شهد كثيرٌ من جُلَّةِ الأساتذة طرفًا من هذه القصة الفنية.
ومن بلائي في هذا البحث, وماعنيت به في سبيله, أني إذ عَزَّت المراجع, وتعسَّرت المصادر, عدت إلى الصحف والمجلات التي أنشئت من مستهلِّ النهضة إلى اليوم, فقرأتها, واستقرأتها, نشدانًا لحديث يقص خبرًا, أو يسوق أثرًا، أو يهدي من ضلال، وينير من ظلام.
ويعلم الله كم كانت أناملي من تصفحها, وكم قذيت عيناي من تتبعها, بل لعلِّي أدمنت النظر في مصادر لا تمت إلى الموضوع بصلةٍ في عنوانها, ولكني تلمست بالنظر فيها العثور على ما له بالبحث سبب قريب أو بعيد، وكثيرًا ما أفدت من هذا الجهد, ولكن بعد تعنية وضنى وطول اصطبار.
وربا خدعتني العناوين, وأغرتني دلالتها, فطرت شوقًا إليها. وكلفت بإجالة النظر فيها, ثم لم أعد منها إلّا بما يعود به الظامئ من السراب.
ثم إن الكتابة في عَلَمٍ من الأعلام أيسر كلفةً, وأقل جهدًا, وأضأل مشقةً, من الكتابة في هذا الموضوع المتسع المتشعب, الذي لا ينتهي المرء من جانبٍ منه, إلّا أطلَّت له جوانب تتطلب الدرس, وتحتاج إلى الكشف والتجلية.
ولقد كانت لي مندوحة عن الاستيعاب والاستقصاء، فلو أني تحدثت عن الأزهر والخطابة, أو الصحافة, أو الكتابة, أو الشعر مثلًا, لكان مادةً غزيرةً للكلام، ولكني آثرت أن يكون الحديث شاملًا، والبحث مستكملًا أطرافه ونواحيه.
وإذا كانوا يقولون: إن اختيار الرجل قطعةً من عقله, فهذا من غير شكٍّ قطعة أو جذوةً من عاطفتي, وخفقة من وفائي، لمعهدٍ عتيدٍ مجيدٍ، يدين له بالوفاء والإخلاص كلُّ عاقلٍ رشيدٍ.