وهنا يتوقف سَوْق الأدلة النقلية، ويأخذ الإنسان والحيوان في إيراد الأدلة العقلية حتى نهاية الرسالة، إذ يأتي الإنسي بحجة عقلية وبرهان منطقي، فيرده عليه الحيوان بحجة وبرهان, ومن ذلك هذا الحوار:
قال الملك للإنسي: إن الدعاوَى لا تصح عند الحكام إلا بالبينات ولا تقبل إلا بالحجج، فما حجتك فيما قلتَ وادعيت؟ قال الإنسي: إن لنا حججًا عقليةً ودلائلَ فلسفيةً تدل على صحة ما قلنا، قال الملك: ما هي؟ بينها، قال: نعم، هي حسن صورتنا، وتقويم بنية هيكلنا، وانتصاب قامتنا، وجودة حواسنا، ودقة تمييزنا، وذكاء نفوسنا، ورجحان عقولنا، كل هذا دليل على أننا أرباب وهم عبيد لنا، قال الملك لزعيم البهائم: ما تقول فيما ذكر؟ قال الزعيم: ليس شيء مما قال دليلًا على ما ادعى هذا الإنسي، اسمع ما أقول، واعلم بأن الله تعالى لم يخلقهم على تلك الصورة ولا سواهم، ولا تلك البنية لتكون دلالة على أنهم أرباب، ولا خلقنا على هذه الصورة لتكون دلالةً على أننا عبيد، ولكن لعلمه واقتضاء حكمته بأن تلك الصورة أصلح لهم، وهذه أصلح لنا.
وبيان ذلك أن الله تعالى لما خلق آدم وأولاده عراةً حفاةً بلا ريش على أبدانهم، ولا وبر ولا صوف على جلودهم تقيهم من الحر والبرد، وجعل أرزاقهم من ثمرات الأشجار، ودِثارهم من أوراقها، وكانت الأشجار منتصبة مرتفعة في جو الهواء، جعل أيضًا قامتهم منتصبة؛ ليسهل عليهم تناول الثمر والورق منها، وهكذا لما جعل غذاء أجسامنا من حشائش الأرض، جعل بنية أبداننا منحية ليسهل علينا تناول العشب من الأرض، فلهذه العلة جعل صورتها منتصبةً، وصورتنا منحنيةً، لا كما توهموا.
وهكذا وهكذا، تأخذ الرسالة في ضروب من الحجج والبراهين والأدلة العقلية.