وكذلك يقول من بعده لمن بعدنا كـ"الخريمي" و"العتابي" و"الحسن بن هانئ" وأشباههم؛ فكل من أتى بحسن من قول أو فعل، ذكرناه له وأثنينا به عليه، ولم يضعه عندنا تأخر قائده أو فاعله، ولا حداثة سنه؛ كما أن الرديء إذا ورد علينا للمتقدم أو الشريف، لم يرفعه عندنا شرف صاحبه ولا تقدمه".
ومعنى هذا: أنه لا فَضل للمتقدمين من الشعراء على التالين لهم؛ فلماذا يُحرم "ابن قتيبة" على هؤلاء إذا أن يخرجوا على ما قرره أولئك ونهجوا سبيله، إذا كانا الفريقين موهوبين كلاهما، ولا يتفاضلان بهذا الاعتبار؟.
كما أنّ الحياة لا تعترف بهذا التضييق الذي يريد بعض الناس أن يلزموا أنفسهم وغيرهم أيضًا به، بل أن تتسع لألوان كثيرة مختلفة من الأذواق والمعايير، وبخاصة في مجال الفنون والآداب، وما دام الله -سبحانه- لم يجعل العقل والذوق والوجدان والإبداع قصرًا على قوم دون قوم، ولا على جيل دون جيل، ولا على أمة دون أمة, فلماذا اشترط "ابن قتيبة" على اللاحقين من الشعراء أن يلغوا شخصياتهم الفنية، ويحطبوا في حبل من تقدموا من نظرائهم؟.
على أن الذي يُهمنا من هذا النص حقًّا: هو ما جاء فيه من أن تلك هي السبيل التي كان ينتهجها دائمًا أصحاب القصائد، وهو ما لا يوافقه الواقع، إذ هناك قصائد جاهلية كثيرة جدًّا، لم يجر فيها ناظموها على هذه الخطة، بل تراهم يدخلون في موضوعهم مباشرة، أو يَسْتَهِلُّون شعرهم بشيء آخر غير الوقوف على الأطلال، كالنسيب مثلًا، أو الحديث عن فراق الحبيبة لانتقالها مع قبيلتها إلى منزل آخر، أو بالحديث عن السهاد ومراعاة النجوم، ومقاساة الأرق والقلق، أو بالرد على عتاب زوجته له لهذا السبب أو ذاك، أو بوصف الخمر أو بالتحسر على أيام الشباب التي انصرمت ولم يعد لها من رجوع، وغير ذلك من