ثم واصل ذلك بالنسيب فشكا شدة الوجد، وألم الفراق، وفرط الصبابة والشوق؛ ليُميل نحوه القلوب، ويَصْرِفَ إليه الوجوه، وليَسْتَدعي به إصغاء الأسماع إليه؛ لأن التّشبيبَ قريبٌ من النُّفوس لائط بالقلوب، لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء؛ فليس يكاد أحد يخلوا من أن يكون متعلقًا منه بسبب، وضاربًا فيه بسهم حلال أو حرام.

فإذا علم أنه قد استوثق من الإصغاء إليه والاستماع له، عقب بإيجاب الحقوق؛ فرحل إلى شعره وشكا النصب والسهر، وسهر الليل، وحر الهجير وإمضاء الراحلة والبعير.

فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء، ودمامة التأمين، وقرر عنده ما ناله من المكاره في المسير، بدأ في المديح فبعثه على المكافأة، وهزه إلى السماح وفضله على الأشباه، وصغر في قدره الجزيل.

فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب وعدَل بين هذه الأقسام؛ فلم يجعل واحدًا مِنها أغلب على الشعر، ولم يُطل فيمل السامعين، ولم يقطع بالنفوس ظماء إلى المزيد.

وليس لمتأخري الشعراء أن يخرُج على مذهب المتقدمين في هذه الأقسام، فيقفَ على منزل عامر، أو يبكي على مشيد البنيان؛ لأنّ المتقدمين وقفوا على المنزل الداثر والرسم العافي، أو يرحل على حمار أو بغل ويصفهما لأنّ المُتقدمين رحلوا على الناقة والبعير، أو يرد على المياه العذاب الجواري؛ لأن المتقدمين وردوا على الأواجن الطوامي أو يقطع إلى الممدوح منابت من النرجس والآس والورد؛ لأن المتقدمين جروا على قطع منابت الشيح والحنوة والعرارة".

طور بواسطة نورين ميديا © 2015