إنّ عُنصر المُوسيقى في الشعر هو من العناصر الجوهرية التي لا يكون الشعر شعرًا بدونها، وعبثًا يُحاول المسفسطون إيهامنا بأن الموسيقى ليست بذات أهمية، وأن الشعر يظل شعرًّا حتى في غيابها، وهي دعوى أشبه شيء بأن يقول قائل: إن البيتَ يَظَلُّ بيتًا حتى لو لم يكن له جدران أو سقف، أو الإنسان يَظلُّ إنسانًا حتى ولو لم يكن له رأس أو جزع.
وليست الموسيقى شيئًا مجتلبًا يُلصق بالقصيدة، بل هي جزء منصهر مع بقية أجزائها وتأثيرها تأثير خطيرٌ, إن الموسيقى تخلق للقصيدة جوًّا عجيبًا، يُعَبّد الطريق إلى قلوبنا تعبيدًا أمام ما تتضمنه المعاني وأخيلة وأحاسيس، ويضفي عليها سحرًا وفتنة.
والواقع أن شعرًا بدون وزن وقافية إنْ صَحّ تسميتُه في هذه الحالة شعرًا، وهو لا يَصِحُّ ولا يمكن أن يصح، هو كالأرض الجرداء مقارنة بالروض النضير، تصدح فيه الطيور ابتهاجًا بمقدم الربيع الجميل، وقد هب عليه النسيم العليل.
وثَمّ دعوة أخرى يقول أصحابها من ناظمي شعر التفعيلة: إن الشعر القديم كله شعر إنشادي؛ بمعنى إنه عالي النغم، مجلل على الدوام بغض الطرف عن المناسبة والسياق, والقائلون بذلك يقصدون الزراية عليه، إذ يهدفون إلى القول بأنه كان شعرًا خطابيًّا، يلقى في المحافل، ولم يُنظم ليقرأه الفرد بينه وبين نفسه.
لكنّ هذا غير صحيح، إذ أمامنا نصوص شعرية متنوعة لا حصر لها، بعضُها عالي النغم فعلًا كـ"معلقة عمرو ابن كلثوم" التي يتحدى فيها ملك الحيرة، ويتهدّده بعظائم الأهوال إن هو فكر في أن يقترب منهم، وليس هذا عيب فيها إذ السياق يتطلب النغم العالي المجلل؛ لأنه سياق حروب وصراعات وتهديدات