وهذا أكبر دليل على عظم التدليس الذي ينتهجه الفريقان كلاهما في حديثهما عن فن الشعر.
وقد كتبَ بعضُ مَنْ يُدافِعون عن هذا الشعر مقرًّا بأن الغموضَ يلف الشعر الحديث وقسماته، ويخفي جوهره وعلاقاته بأشقائه في لوحة الأدب، وزاد الفجوة التي تفصل بين كثير من النصوص الشعرية المعاصرة، وجمهوره الواسع من القراء، وأن ظاهرة الغموض جاءت من أمور منها الغموض الدلالي، واستحالة الصورة الفنية، وغموض الرمز؛ فماذا بالله بقي في شعر يكون بهذه الدرجة من الغموض؟ وأي غموض إنه غموض مثلث؛ إنه غموض شامل كامل لا يترك للقارئ فرصة لينفد منها إلى شيء يقبل الفهم التذوق.
أما النصوص التفعيلية التي ما زالت تقول شيئًا مفهومًا؛ فقد انحدرت في غير قليل من الأحيان إلى العدوان على قيمنا الخلقية والدينية التي نعتز بها كل الاعتزاز، إذ نرى فيها التجديف في حق الله، والتطاول على الذات الإلهية، والاستعانة بالرموز الوثنية والصليبية، مما لا يمكن استساغته بتاتًا في النفس المسلمة السوية.
بل إن أصحاب هذا اللون من الشعر حين يرجعون إلى التاريخ الإسلامي، لا يجدون من يتخذونه رموزًا لهم إلا أمثال "الحلاج" و"ابن عربي" و"أبي نواس" و"ابن الراوندي" والقرامطة والزنج، ممن تثور حول أفكارهم ومواقفهم ومعتقداتهم علامات استفهام لا تبعث أبدًا على الطمأنينة, كما يتخذون أساتذتهم ومثلهم العُليا من "إليوت" و"باوند" و"ريلك" و"دورك" و"نيورود" وأشباههم رغم اختلاف القيم والاتجاهات والعقائد بيننا وبينهم، ورغم اختلاف ظروف شعرنا العربي عن الشعر الغربي في أشياء كثيرة.