إنه لم يكن يعرف إلا الفرنسية وإلا الإنجليزية إلى حد ما، فهل يستطيع مَن هو في مثل وضعه هذا أن ينهض بتلك المقارنة التي تحتاج إلى طوائف من النقاد ومقارنين للآداب تعرف كل لغات العالم، وتجمع أشعار العرب ونظيرتها لدى الأمم الأخرى، وتعكف على كل هذا إلى أن تخرج بما تضع عليه يدها من نتائج؟ وأين الدكتور مندور من هذا كله؟ ثم مَن قال: إن الشعر العربي جميعه شعر خطابي ذو وصف حسي؟
إنه كأي شيء في العالم فيه الخطابية، وفيه الهمس والنجب، وفيه الانعزال عن الناس، وفيه الانغمار في الحياة والانشغال بمشاكلها، وفيه الوصف الحسي وفيه الوصف الباطني، وفيه التأمل الفكري وفيه التحليل العاطفي، وفيه القصص والحوار.
إن "معلقة ابن كلثوم" مثلًا تغلب عليها "القعقعة" وهي قعقعة مطلوبة في السياق الذي قيلت فيه ولا يصلح له غيرها، وفيها مع ذلك الإبداع الفني على أحسن ما يكون، يعرف ذلك كل من قرأ تلك المعلقة البديعة، أما قصائد جميل وقيس وكُثير فكلها همس واستبطان ذاتي، وضراعة يائسة، وعذاب أليم، يتجرعه صاحبه في عجز، ولدينا قصيدة "مالك بن ريب" في رثائه لنفسه، تلك القصيدة التي قلما يتصور الإنسان أن لها شبهًا في أشعار العرب أو الأمم الأخرى، ولدينا شعر الفرزدق في الحديث عن الذئب، وشعر جرير في بكاء رفيقة عمره، ولدينا زهديات أبي العتاهية، وشعر أبي نواس القصصي في مغامرات له، والشراب، ولدينا قصيدة ابن الرومي في جمال صوت وحيد المغني، وقصيدته في رثاء ابنه محمد، وأشعاره في وصف الطبيعة، وعلى رأسها عينياته الشهيرة، ولدينا قصيدة