كل ذلك في لغة بديعية مفعمة بالفكاهه والتهكم، والحرص على متانة الأسلوب، وإظهار البراعة اللغوية المتمثلة في سعة المعجم اللفظي، وكثرة التسجيع والجناس والتوازن والتوليات، وغير ذلك من ألوان المحسنات المعقدة، ولزوم ما لا يلزم، مع حلاوة التصوير، وإبراز بعض الأوضاع الاجتماعية، وتدبير المآزق للبطل، ثم إخراجه منها بذكاء ولودعية.
ثم نطور ذلك الفن ودخله التحويل في الموضوعات والأهداف فاتسع لكل شيء، حتى للوعظ الديني والتوجيهات الخلقية ... إلخ، وبلغ من اتساع انتشار المقامات واهتمام الكتاب بها أن أحصى بعض الدارسين عدد الذين مارسوا تألفيها، فوجدهم تجاوزوا الثمانين مؤلفًا، بدأً من بديع الزمان الهمذاني في القرن الرابع الهجري، وانتهاء بنصيف اليزجي في القرن التاسع عشر الميلادي.
أما في الأدب الفارسي: فلم يمارسها إلا أديب واحد هو "القاضي حميد الدين" من أهل القرن السادس الهجري، الذي أقر بأنه ليس إلا تلميذًا من تلامذة بديع الزمان، فكفَى الباحثين بذلك مؤنة التدليل على أنه إنما استقاها من العربية وأدبها، وإن كان الدكتور جمعة قد استأنس رغم هذا بما قاله كل من "براون" المستشرق الإنجليزي و"كريم كشاورزي" الباحث الإيراني.
وإذ كان البطل في كل من المقامة الهمذانية والمقامات الحريرية شخصًا واحدًا لا يتغير هو "أبو فتح السكندري" عند بديع الزمان، و"أبو زيد السروجي" عند الحريري، وكذلك راوية كل منهما شخصًا واحدًا أيضًا، هو "عيسى بن هشام" في الأولى، و"الحارث بن همام" في الثانية، فإن البطل لدى القاضي "حميد الدين" يتغير في كل مقامة. أما الموضوع فيبقى ثابتًا دون تغيير كما هو الحال عند الهمذاني والحريري، حيث الكدية هي المحور في معظم مقامات الأول وكل مقامات الثاني.