جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء، فليس يكاد أحدٌ يخلو من أن يكون متعلقًا منه بسببٍ، وضاربًا فيه بسهمٍ، حلال أو حرامٍ.
فإذا علم أنه قد استوثق من الإصغاء إليه، والاستماع له، عَقَّبَ بإيجاب الحقوق، فرحل في شعره، وشكا النّصَبَ والسّهَرَ، وسُرَى الليل وحر الهجير، وإنضاء الراحلة والبعير، فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء، وذمَامَةَ التأميل، وقرر عنده ما ناله من المكاره في المسير، بدأ في المديح، فبعثه على المكأفاة، وهزَّه للسِّماح، وفَضَّله على الأشباه، وصَغَّر في قدْرِه الجزيل.
فالشاعر المجيد مَن سلك هذه الأسالب، وعَدلَ بيْنَ هذه الأقسام، فلم يجعل واحدًا منها أغلب على الشعر، ولم يُطِل فَيُمِل السامعين، ولم يَقْطَعْ وبالنفوس ظمآءٌ إلى المزيد. وليس لمتأخر الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدمين في هذه الأقسام، فيقف على منزلٍ عامر، أو يبكيَ عند مُشَيَّدِ البنيان؛ لأن المتقدمين وقفوا على المنزل الداثر، والرسم العافي. أو يرحلا على حمارٍ أو بغلٍ ويصفهما؛ لأن المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير، أو يرد على المياه العذاب الجواري؛ لأن المتقدمين وردوا على الأواجن الطوامي. أو يقطع إلى الممدوح منابت النرجس والآس والورد؛ لأن المتقدمين جروا على قطع منابت الشّيح والحَنْوَةِ والعَرارَة ".
إذا كنا نقرأ في كتاب ابن قتيبة ذلك، فإن شمس الدين محمد بن قيس الرزاي صاحب (المعجم في معايير أشعار العجم)، يسوق في كتابه هذا كلامًا يذكرنا بما جاء عند ابن قتيبة، إذ قال:
"ذكر جماعة من أهل البراعة، أن النسيب هو غزل يجب على الشاعر أن يجعل مقدمته فيه، وذلك لمَيل النفوس إلى الاستماع لأحوال المحبين، وغزل العاشقين، وعن طريقه يشوق الممدوح، ويحسه على حسن الاستماع له، فيجتذب حواسه،