وهناك نقطة واحدة لا أُحِبُّ المُضي دون أن أقول كلمة سريعة بشأنها، ألا وهي: زعم المستشرق الإسباني أن البطل الجوال في قصص "البيكاريسك" قد ظهر في الأدب الإسباني قبل انتقال فن المقامة من المشرق العربي للأندلس، وهو زعم خاطئ؛ إذ إن قصة حياة "لوثاريو دوترموس" وحظوظه ومحنه، التي ذكر محمد غنيمي هلال أنها أول قصة من نوع "البيكاريسك" في ذلك الأدب قد ظهرت عام ألف وخمسمائة وأربعة وخمسين على حين انتقلت المقامة للأندلس قبل ذلك بعدة قرون.

ويزيدُ الأمرَ إيضاحًا دكتور عيسى الدودي في مقاله: "تأثير المقامة في فن السردي الأوربي المنشور في منتدى المؤتمر" فيقول: اعترف كثير من المهتمين بالأدب الأندلسي، بكون المقامة كانت جسرًا لمرور القصة لإسبانيا وعموم أوربا، وذلك استنادًا إلى المقارنات التي عقدوها بين المقامة والأدب السردي في أوربا، وانتهوا إلى هذه القناعة بعد أن توصلوا إلى كثير من أوجه التشابه بين الفنين.

بدأ فن المقامة في الانتشار في أواخر القرن الرابع الهجري، وأبرز أعلام هذا الفن في المشرق الحريري والهمذاني، ثم إنه قدر لهذا اللون من الأدب الانتشار الواسع في مشرق العالم الإسلامي ومغربه، وكثر المقلدون لهذا اللون من الأدب.

وقد عرف الأندلسيون المقامة عن طريق من رحل إليهم من المشرق، كما قدر للأندلسيين الوافدين المشرق الاطلاع على هذا الفن الأدبي، وخاصة من أسعدهم الحظ، وأقاموا في بغداد، وبعد أن أتموا دراستهم عادوا إلى بلدهم، ونشروا هذه المقامات، فلقيت قبولًا من طرف الأندلسيين، ونالت حظّها من المعارضة والشرح والنقد والتعليق، ونُسجت على منوالها مقامات مشهورة، كـ"مقامة أبي حفص عمر الشهيد"، و"مقامة أبي محمد بن مالك القرطبي" و"مقامة عبد الرحمن بن فتوح" و"مقامة ابن المعلم".

طور بواسطة نورين ميديا © 2015