فقلت: كل أنت من هذا الجراب، لم يكن الكنيف في الحساب، وخرجت نحو الباب، وأسرعت في الذهاب، وجعلت أعدو وهو يتبعني ويصيح: يا أبا الفتح، المضيرة.
وظن الصبيان أن المضيرة لقب لي، فصاحوا صياحًا فرميت أحدهم بحجر من فرط الضجر، فلقي رجل حجر بعمامته، فغاص في هامته؛ فأخذت من النعال بما قدم وحدث، ومن الصفع بما طاب وخبث، وحشرت إلى الحبس، فأقمت عامين في ذلك النحس، فنذرت ألا أكل مضيرة ما عشت؛ فهل أنا في هذا يا آل همذان ظالم؟! قال عيسى بن هشام: فقبلنا عذره، ونذرنا نذره، وقلنا: قديمًا قد جنت المضيرة على الأحرار، وقدمت الأراذل على الأخيار".
وهَذه المقامة كما يرى القارئ هي قطعة برأسها، تُقرأ دفعة واحدة، ولا يستطيع القارئ أن يفلت من إرسالها، وتشويقها وسحرها، دون أن يتمها في هذه الدفعة الواحدة؛ إذ هي عمل محكم ليس فيه ثغرة، يمكن أن يتعلل بها المتعلل لأخذ نفسه، بل لا بد له أن يمضي حتى يفرغ منها في طلق واحد، وعندئذٍ وعندئذ، فقط يستطيع أن يتنفس.
وعلى كل حال فقد عاد الدكتور شوقي ضيف، فقال: "إن المقامات عرفت منذ وقت مبكر خارج الأدب العربي؛ ففي الأدب الفارسي مثلًا: ألف القاضي حميد الدين أبو بكر بن عمر البلخي ثلاثة وعشرين مقامة على نسق مقامات الحريري، وأتمها سنة خمسمائة وإحدى وخمسين للهجرة وكذلك عرفت في الأوساط اليهودية، والمسيحية الشرقية؛ فترجموها، وصاغوها على مثالها باللغتين العبرية والسريانية.