أما في أوربا فقد عني المستشرقون بمقامات الحريري؛ فترجمت إلى اللاتينية، والألمانية، والإنجليزية، إلا أنه يؤكد أن تأثيرها كان محدودًا وبخاصة إذا قارنا بينها وبين ألف ليلة وليلة في هذا المجال، ذَلك أنّ المقامات -كما يقول- ليست القصة عمادها، بل عمادها الأسلوب، وما يحمل من زخارف السجع والبديع.
ثم يقول: إننا مع ذلك يمكن أن نرى أثرها في بعض القصص الأسباني، الذي يصف لنا حياة المشردين والشحاذين، وإن لهذا القصص عندهم بطل يُسمى "بيكارون" يشبه من بعض الوجوه أبا الفتح الإسكندري في مقامات بديع الزمان، وأبا زيد السروجي في مقامات الحريري.
وفيما يَخُصّ تقليد القاضي المذكور لمقامات الحريري ثمة كتاب للدكتور بديع محمد جمعة عنوانه (دراسات في الأدب المقارن) تناول في فصل منه هذا المسألة بشيء من التفصيل، وهو يبدأ بتعريف فن المقامة محاولًا الرجوع بهذا الفن العربي الأصيل إلى أول من ابتدعه من المؤلفين العرب.
والمقامة في بداياتها الأولى فن أدبي يقوم عادة على حكاية من حكايات الشطارة والاستجداء، ذات بطل واحد ينتقل من مكان لمكان، ومن موقف إلى آخر؛ مغيرًا هيئته في كل مرة متخذًا الكدية وسيلة لكسب ما يقيم حياته، إلى أن تنتهي الحكاية بانكشاف حقيقة حاله، وافتضاح أساليب مكره وخداعه، التي يلجأ إليها لتحصيل مطعمه ومشربه، كل ذلك في لغة بديعية مفعمة بالفكاهة، والتهكم والحرص على متانة الأسلوب، وإظهار البراعة اللغوية المتمثلة في سعة المعجم اللفظي، وكثرة التسجيع، والجناس، والتوازن والتوريات، وغير ذلك من ألوان المحسنات المعقدة، ولزوم ما لا يلزم، مع حلاوة التصوير، وإبراز بعض الأوضاع الاجتماعية، وتدبير المآزق للبطل، ثم إخراجه منها بذكاء ولوذعية.