كذلك فاللوحة لا تترك للذهن فرصة لإضافة شيء إلا ما يراه المشاهد أمامه، إذ كل شيء حاضر تلقاء عينيه؛ بخلاف قارئ الأدب، حيثُ يترك الكاتب كثير من الفراغات التفصيلية، ينشط الخيال إلى ملئها مستمعًا بهذا النشاط الذهني العجيب.
ولدينا أيضًا: التشبيهات والاستعارات مما لا تستطيع اللوحات إيذائه شيئًا إذ هي لا تُرينا إلا الشيء ذاته فحسب، على عكس النص الأدبي الذي يرينا الشيء، ويرينا في ذات الوقت الشيء المشبه به وهكذا.
ومثلما هو الحال في العلاقة بين الأدب والتصوير، فكذلك الحال في العلاقة بين الأدب والنحت، إن الكلمات قادرة على وصف الأشياء ذات الحجوم وصفًا مجسمًا؛ ثم تزيدُ على ذلك وصف الحركة، والصوت، والرائحة كما أشرنا قبلًا, وكذلك التقاط دبيب المشاعر والأفكار، والنيات أيضًا، لا الحركة وحدها كما ظن الفيلسوف الألماني "ليسنج" في دراسته عن التمثال "لاوكون".
وفي شِعْرنا القديم أمثلة كثيرة جدًّا على هذا اللون من الإبداع، إذ يعكف الشاعرُ على ناقته أو فرسه مثلًا، يَصِفُها عضوًا عضوًا بكل ما لديه من تحديد وتدقيق، كما يُقابلنا في شعر الغزل أحيانًا مثل ذلك الوصف للمرأة التي يتدله في هواها الشاعر؛ شعرها وعينيها ووجنتيها، وفمها وأسنانها وعنقها، وصدرها وقوامها، وخصرها وساقيها ... إلخ.
ولقد أذكر مثلًا أنني قرأت كثيرًا من الصفحات التي تتجلى فيها هذه السمة التعبيرية في كتابي (ولدي) وفي (منزل الوحي) للدكتور محمد حسين هيكل حين يصف بعض شوارع باريس، أو الكعبة المشرفة فتتجلى براعته في تدقيق الوصف، وتحليله، وتفصيله؛ بحيث يبدو لك كأنه نحات مدهش.