ذلك العنصر الموسيقي نفسه، من شأنه أن يغطي على تلك الهنات، بما فيه من توقيع ورنين أخاذ.

ولنَفس هذين السببين يغتفر النقاد للشعراء بعض ألفاظهم وصيغهم، التي لا تشيع شيوع غيرها من الصيغ والألفاظ، وكذلك تركيباتهم التي لا تجري تمامًا على ما تجري عليه الجملة العربية النثرية الحرة.

وننتقل إلى فن التصوير حيث نجد أن إمكانات الأدب في هذا المضمار، أكبر من إمكانات الريشة، إذ لا يستطيعُ الرَّسم أن ينقل لنا في أية لوحة إلا لقطة واحدة، ومِن ثَمّ لا يُمْكن أن يكون المَشهد المرسوم إلا مشهدًا ساكنًا, ففن التصوير فنٌ مَكاني بخلاف الأدب الذي هو فن جمالي مكاني معًا، وبالتّالي كان بإمكان الأدب أن يُصَوِّر لنا معركة كاملة مثلًا من أولها إلى آخرها، بكل ما تعج به من كر وفر، وضرب وقتل، وجري وقفز على مدى ساعات وساعات.

كذلك فالتصوير قد يقتصر في الألوان على الأبيض والأسود، أما الأدب، فالألوان كلها حاضرة دومًا في يديه، لا يغيب منها لونٌ أبدًا, ليس ذلك فقط بل يستطيع الأديب في لوحته أنْ يَنْقُل لنا الأصوات أو المشمومات، وخلجات النفوس، مفصلة بكل دقائقها علاوة على أسماء الأشخاص وأنسابهم، وأسماء بلادهم، وماضيهم وحاضرهم وعلاقاتهم بغيرهم من البشر، وهو ما لا يستطيعه شيء منه فن الرسم كما هو معروف.

وفوق هذا ففي الرسم يرى المشاهد اللوحة دفعة واحدة، فلا يحس من ثم بذلك التشويق الذي يشعر به قارئ الأدب؛ حيث تنبثق الأسرار واحدًا وراء الآخر مثيرة بهذه الطريقة تطلعاتنا ولهفتنا؛ مما لا يعرفه مشاهد اللوحة, كما أنّ اللوحة تقف عاجزة تمامًا عن أن تنقل مثلًا عبارة تهكمية، كقول أحد الأدباء عن بطل من أبطال قصته: "إنه لم يمت تمام الموت".

طور بواسطة نورين ميديا © 2015