ولا تقتصر المقارنات بين الأدب والفنون الجميلة عند هذا الحد، بل هنالك أيضًا البناء والعمارة، ومن يمر بعينيه على الأرفف المخصصة لكتب تاريخ الأدب والنقد؛ فسوف يعثر على عناوين مثل: بناء القصيدة عند الشاعر الفلاني أو في العصر العلاني أو بناء الرواية, وفي العقود الأخيرة كانت هناك ضجة تتحدث عن البنيوية منهجًا في نقد الأدب، وبِخَاصّة في مجال الأسطورة والقصة، مِمّا يدلُّ على أن ثمة علاقة بين الأدب وفن العمارة أيضًا.

وكلنا يعرف ما كتبه ابن قتيبة في القرن الثاني الهجري يصف التصميم البنائي الذي كانت تجري عليه كثيرٌ من القصائد العربية القديمة، إذ لاحظ أن الشعراء الجاهليين عادة ما يفتتحون قصائدهم بالوقوف على الأطلال، والبكاء عندها، جاعلين ذلك سبب لذكر أهلها الظاعنين عنها بحثًا عن الماء والكلأ، ثمّ ينْتَقِلون من هذا إلى النسيب، وشكوى الوجد وألم الفراق؛ بُغية استمالة الأسماع والقلوب، ثم يُعَقِّبون بذكر ما لاقوه في رحلتهم إلى ممدوحهم من مشاقّ ومصاعب؛ ليدخلوا بعد هذا في مديحه وتفضيله على كل من عاداه وهكذا.

ويُنَبّه ابن قتيبة الشاعر إلى أنه ينبغي أن يعدل أثناء هذا بين أغراض القصيدة وأقسامها، فلا يُطيل الكلام في قسم على حساب الآخر، إلى آخر الشروط التي طالب بها ناقدنا الكبير شعراءنا القدامى كي يحوزوا قبول الممدوحين والنقاد على السواء، وابن قتيبة هنا مجرد مثال.

على أنّ بناء القصيدة لا يتعلق بموضوعاتها فحسب؛ بل هناك بناؤها الموسيقي بدءًا من شكلها التقليدي، الذي يعتمد الوزن الواحد، والقافية الواحدة من أولها إلى آخرها، مع تقسيم كل بيت إلى شطرين متساويين، مرورًا بالمزدوجات والموشحات، والمصمتات والرباعيات، وانتهاء بالقصيدة التفعيلية؛ حيثُ يتَحَرّرُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015