ولكي لا يكون الكلام نظريًّا لا علاقة له بالواقع، ها أنذا أسوق إحدى مقامات الهمذاني، وهي المقامة المضيرية؛ حتى يلمس الدارس بنفسه مدى صحة ما قلناه عن الفن القصصي، وتحققه على أحسن ما يرام في هذا الشكل الأدبي على يد الهمذاني، ولسوف يرى الدارس عجبًا من الأمر، إذ إن هذه المقامة تخلو من التقعر اللغوي تمامًا، وليس فيها شيء مما يفد على الذهن حين نشير للأساليب البلاغية، وإن كان السجع والجناس متوفرين لا يغيبان:
" حدثنا عيسى بن هشام، قال: كنت بالبصرة، ومعي أبو الفتح الإسكندري، رجل الفصاحة يدعوها فتجيبه، والبلاغة يأمرها فتطيعه، وحضرنا معه دعوة بعض التجار؛ فقدمت إلينا مضيرة تثني على الحضارة، وتترجرج في الغضارة، وتؤذن بالسلامة، وتشهد لمعاوية -رحمه الله- بالإمامة، في قصعة يزل عنها الطرف، ويموج فيها الظرف، فلما أخذت من الخوان مكانها، ومن القلوب أوطانها؛ قام أبو الفتح الإسكندري يلعنها وصاحبها، ويمقتها وآكلها، ويثلبها وطابخها.
وظنناه يمزح، فإذا الأمر بالضد، وإذا المزاح عين الجد، وتنحى عن الخوان، وترك مساعدة الإخوان ورفعناها، فارتفعت معها القلوب، وسافرت خلفها العيون، وتحلبت لها الأفواه، وتلمظت لها الشفاه، واتقدت لها الأكباد، ومضى في إثرها الفؤاد، ولكنا ساعدناه على هجرها، وسألناه عن أمرها؛ فقال: قصتي معها أطول من مصيبتي فيها، ولو حدثتكم بها لم آمن الوقت وإضاعة الوقت.