وإن لم تخل من انفتاح ثقافي، ولكن هذا الانفتاح لم يكن ليحقق في بداياته اتصالًا واسعًا بما في أوربا من جهود في خدمة أدبنا ولغتنا، ومما قلل هذا الانفتاح أنَّ البعثات كانت تتجه إلى فرنسا فحسب.

وحينما بدأت النهضة في عالمنا العربي كانت الجهود موزَّعة، فلم يعودوا جميعًا إلى عصر واحد أو اتجاه واحد ليكرِّسوا جهدهم فيه، بل اتجه كلٌّ إلى العمل الذي يرضى ذوقه، ولذلك لم يحظ عصر معين من عصور الأدب العربي بالجهد كله، أضف إلى ذلك أن الحضارة العربية الإسلامية قد بهرت الكثيرين, ومناهلها كثيرة ومتنوعة.

ولا ننس أن التوجه كان لإحياء تراث الأمة، فلم يشغلوا بنقده؛ لأنهم كانوا بعد هذا السبات الطويل مبهورين به، فأقبلوا ينشرونه وينهلون منه, ويتداولون النصوص، ولعل الطبعات الأولى منه تلقي ضوءًا ساطعًا على ما نذهب إليه، وقد كان نشرهم لذلك التراث انتقائيًّا، فنشروا منه ما خلب لبهم أولًا، وسنرى في الصفحات التالية من البحث كيف اتسعت دائرة اهتمامهم إلى أن شملت دقائق هذا التراث.

ولقد سقت ذلك كله لأبيِّن أن في مقولة الدكتور بدوي تجانيًا على أمتنا وباحثينا، فهو يعقد مقارنة بين من أوتي الأدوات والإمكانيات, وبين من نام نومًا عميقًا ثُمَّ صحا، يطالب باحثينا وندرة منهم كانت تعرف العربية جيدًا فيكف باللغات الأخرى؟ والطباعة دخلت مع الحملة الفرنسية, وعلى نطاق رسمي ضيق في بداية الأمر, ولا يفوتني أن أنوّه أن بداية التعريف بروائع الأدب الجاهلي انطلقت من سورية ولبنان على يد الآباء اليسوعيين ومطابعهم, وما تيسر لهم من إمكانات لم تتح لغيرهم.

وقد كان أول ناقوس خطر دقَّ منبهًا كتاب طه حسين "الشعر الجاهلي", الذي صدر عام 1926م, تلاه كتابه المعدَّل له "الأدب الجاهلي" عام 1927م، وأستطيع أن أزعم أن هذين الكتابين وما أثاراه من مقولات كانا نقطة الانطلاق في البحث الحقيقي الجادّ في الأدب الجاهلي وما يتصل به من قضايا, بالرغم من كل ما ورد فيهما من مقولات صحيحة أو غير صحيحة.

وقد نستبق النتائج حينما نقرر بادئ ذي بدء بأن عصرًا من عصور أدبنا العربي

طور بواسطة نورين ميديا © 2015