فَلَمَّا فَتَحَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ الْكِتَابَ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا، وَقَامَ الْعَبْسِيُّ، فَقَالَ: مَنْ هَهُنَا مِنْ أَحْيَاءِ قَيْسٍ، وَأَخُصُّ مِنْ قَيْسٍ غَطَفَانَ، وَأَخُصُّ مِنْ غَطَفَانَ عَبْسًا؟ إِنِّي أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ تَرَكْتُ تَحْتَ قَمِيصِ عُثْمَانَ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ أَلْفَ شَيْخٍ خَاضِبِي لِحَاهُمْ بِدُمُوعِ أَعْيُنِهِمْ، مُتَعَاقِدِينَ مُتَحَالِفِينَ، لَيَقْتُلُنَّ قتلته فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَإِنِّي أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَيَقْتَحِمَنَّهَا عَلَيْكُمُ ابْنُ أَبِي سُفْيَانَ بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا مِنْ خِصْيَانِ الْخَيْلِ، فَمَا ظَنُّكُمْ بَعْدُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْفُحُولِ.
ثُمَّ دَفَعَ إِلَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ، كِتَابًا مِنْ مُعَاوِيَةَ فَفَتَحَهُ فَوَجَدَ فِيهِ:
أَتَانِيَ أَمْرٌ فِيهِ لِلنَّفْسِ غُمَّةٌ ... وَفِيهِ اجْتِدَاعٌ لِلأُنُوفِ أَصِيلُ
مُصَابُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَهَدَّةٌ ... تَكَادُ لَهَا صُمُّ الْجِبَالُ تَزُولُ
رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ أَجْرَى خَيْلا، فَسَبَقَهُ عَبَّادُ بْنُ زِيَادٍ، فَأَنْشَدَ عَبْدُ الْمَلِكِ:
سَبَّقَ عَبَّادٌ وَصَلَّتْ لِحْيَتَهْ ... وَكَانَ خَرَّازًا تَجُودُ قُرْبَتُهْ
فَشَكَا عَبَّادٌ قَوْلَ عَبْدِ الْمَلِكِ إِلَى خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ لَهُ: أَمَا وَاللَّهِ لأَنْصِفَنَّكَ مِنْهُ بِحَيْثُ يَكْرَهُ.
فَزَوَّجَهُ أُخْتَهُ، فَكَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ مَنَاكِحَ آلِ أَبِي سُفْيَانَ قَدْ ضَاعَتْ.
فَأَخْبَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ خَالِدًا بِمَا كَتَبَ بِهِ الْحَجَّاجُ، فَقَالَ خَالِدٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا أَعْلَمُ امْرَأَةً مِنَّا ضَاعَتْ وَلا نَزَلَتْ إِلا عَاتِكَةَ بِنْتَ يَزِيدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَإِنَّهَا عِنْدَكَ، وَلَمْ يَعْنِ الْحَجَّاجُ غَيْرَكَ.
قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: بَلْ عَنَى الدَّعِيَّ ابْنَ الدَّعِيِّ عَبَّادًا، قَالَ خَالِدٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا أَنْصَفْتَنِي، أَدَّعِي رَجُلا ثُمَّ لا أُزَوِّجُهُ! إِنَّمَا كُنْتُ مَلُومًا لَوْ زَوَّجْتُ دَعِيَّكَ، فَأَمَّا دَعِيِّي فَلِمَ لا أُزَوِّجُهُ! .
أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ دَخَلَ عَلَى أَبِيهِ يَوْمًا وَهُوَ فِي قَائِلَتِهِ، فَأَيْقَظَهُ، وَقَالَ لَهُ: مَا يُؤَمِّنُكَ أَنَّ تُؤْتَى فِي مَنَامِكَ، وَقَدْ رُفِعَتْ إِلَيْكَ مَظَالِمُ لَمْ تَقْضِ حَقَّ اللَّهِ مِنْهَا؟ قَالَ: يَا بُنَيَّ إِنَّ نَفْسِي مَطِيَّتِي إِنْ لَمْ أَرْفُقْ بِهَا لَمْ تُبَلِّغْنِي، إِنِّي لَوْ أَتْعَبْتُ نَفْسِي وَأَعْوَانِي لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِلا قَلِيلا حَتَّى أَسْقُطَ وَيَسْقُطُوا، وَإِنِّي لأَحْتَسِبُ فِي نَوْمَتِي مِنَ الأَجْرِ مِثْلَ الَّذِي أَحْتَسِبُ فِي يَقَظَتِي، إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، لَوْ أَرَادَ أَنْ يُنَزِّلَ الْقُرْآنَ جُمْلَةً نَزَّلَهُ، وَلَكِنْ أَنْزَلَ الآيَةَ وَالآيَتَيْنِ حَتَّى اسْتُكْثِرَ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ.
ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ، مِمَّا أَنَا فِيهِ أَمْرٌ هُوَ أَهَمُّ إِلَى أَهْلِ بَيْتِكَ، هُمْ أَهْلُ الْعِدَّةِ وَالْعَدَدِ، وَقِبَلَهُمْ مَا قِبَلَهُمْ، فَلَوْ جَمَعْتُ ذَلِكَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ خَشِيتُ انْتِشَارَهُمْ عَلَيَّ، وَلَكِنِّي أُنْصِفُ مِنَ الرَّجُلِ وَالاثْنَيْنِ، فَيَبْلُغُ ذَلِكَ مِنْ وَرَاءَهُمَا، فَيَكُونُ أَنْجَعُ لَهُ، فَإِنْ يُرِدِ اللَّهُ تَمَامَ هَذَا الأَمْرِ أَتَمَّهُ، وَإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى، فَحَسْبُ عَبْدٍ أَنَّ يَعْلَمَ اللَّهَ مِنْهُ أَنَّهُ يُحِبُّ أَنَّ يُنْصِفَ جَمِيعَ رَعِيَّتِهِ.