ثُمَّ أَنْشَأَ يَسْأَلُنِي عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمُورِ الْفُتْيَا، وَأُجِيبُهُ فَيَقُولُ: أَصَبْتَ أَصَابَ اللَّهُ بِكَ.
أَنْتَ وَاللَّهِ أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ " عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: قَالَ لِي عُمَرُ يَوْمًا: " يَا مُغِيرَةُ، هَلْ أَبْصَرْتَ بِهَذِهِ، عَيْنِكِ الْعَوْرَاءِ مُنْذُ أُصِيبَتْ؟ قُلْتُ: لا.
قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَيُعْوِرَنَّ بَنُو أُمَيَّةَ الإِسْلامَ كَمَا أُعْوِرَتْ عَيْنُكَ هَذِهِ، ثُمَّ لَيُعْمِيَنَّهُ حَتَّى لا يَدْرِيَ أَيْنَ يَذْهَبُ وَلا أَيْنَ يَجِيءُ.
قُلْتُ: ثُمَّ مَاذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ مِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ أَوْ مِائَةٍ وَثَلاثِينَ وَفْدًا كَوَفْدِ الْمُلُوكِ، طَيِّبَةٌ رِيحُهُمْ، يُعِيدُونَ إِلَى الإِسْلامِ بَصَرَهُ وَشَتَاتَهُ.
قُلْتُ: مَنْ هُمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: حِجَازِيٌّ وَعِرَاقِيٌّ، وَقَلِيلا مَا كَانَ، وَقَلِيلا مَا دَامَ " أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِقَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ الْمِنْقَرِيِّ: «مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ وَأَدْتَ» ؟ قَالَ: مَخَافَةَ أَنْ يُخَلَّفَ عَلَيْهِنَّ مِثْلُكَ.
أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلامُ، لَمَّا بَعَثَ جَرِيرًا إِلَى مُعَاوِيَةَ، خَرَجَ وَهُوَ لا يَرَى أَحَدًا قَدْ سَبَقَهُ إِلَيْهِ.
قَالَ: فَقَدِمْتُ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَوَجَدْتُهُ يَخْطُبُ النَّاسَ وَهُمْ حَوْلَهُ يَبْكُونَ حَوْلَ قَمِيصِ عُثْمَانَ، وَهُوَ مُعَلَّقٌ عَلَى رُمْحٍ مَخْضُوبِ بِالدَّمِ، وَعَلَيْهِ أَصَابِعُ زَوْجَتِهِ نَائِلَةَ بِنْتِ الْفَرَافِصَةِ مَقْطُوعَةً، فَدَفَعْتُ إِلَيْهِ كِتَابَ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَكَانَ مَعِي فِي الطَّرِيقِ رَجُلٌ يَسِيرُ بِسَيْرِي، وَيُقِيمُ بِمَقَامِي، فَمَثَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ وَأَنْشَدَهُ:
إِنَّ بَنِي عَمِّكَ عَبْدِ الْمُطَّلَبْ ... هُمْ قَتَلُوا شَيْخَكُمْ غَيْرَ كَذِبْ
وأنت أولى الناب بالوثب فثب قَالَ: ثُمَّ دَفَعَ إِلَيْهِ كِتَابًا مِنَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَهُوَ أَخُو عُثْمَانَ لأُمِّهِ، كَتَبَهُ مَعَ هَذَا الرَّجُلِ مِنَ الْكُوفَةِ سِرًّا أَوَّلُهُ: مُعَاوِيَ إِنَّ الْمُلْكَ قَدْ جُبَّ غَارِبُهُ قَالَ: فَقَالَ لِي مُعَاوِيَةُ: أَقِمْ فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ نَفَرُوا عِنْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ حَتَّى يَسْكُنُوا.
فَأَقَمْتُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ جَاءَ كِتَابٌ آخَرُ مِنَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ أَوَّلُهُ:
أَلا أَبْلِغْ مُعَاوِيَةَ بْنَ حَرْبٍ ... فَإِنَّكَ مِنْ أَخِي ثِقَةٍ مُلِيمُ
قَطَعْتَ الدَّهْرَ كَالسَّدَمِ الْمُعَنَّ ... تَهَدَّرَ فِي دِمَشْقَ وَلا تَرِيمُ
وَإِنَّكَ وَالْكِتَابَ إِلَى عَلِيٍّ ... كَدَابِغَةٍ وَقَدْ حَلِمَ الأَدِيمُ
فَلَوْ كُنْتَ الْقَتِيلَ وَكَانَ حَيًّا ... لَشَمَّرَ لا أَلْفٌ وَلا سَئُومُ
قَالَ: فَلَمَّا جَاءَهُ هَذَا الْكِتَابُ وَصَلَ بَيْنَ طُومَارَيْنِ أَبْيَضَيْنِ، ثُمَّ طَوَاهُمَا وَكَتَبَ عُنْوَانَهُمَا مِنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
وَدَفَعَهُمَا إِلَيَّ، لا أَعْلَمُ مَا فِيهِمَا، وَلا أَظُنُّهُمَا إِلا جَوَابًا، وَبَعَثَ مَعِي رَجَلا مِنْ بَنِي عَبْسٍ لا أَدْرِي مَا مَعَهُ، فَخَرَجْنَا حَتَّى قَدِمْنَا إِلَى الْكُوفَةِ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ فِي الْمَسْجِدِ، لا يَشُكُّونَ أَنَّهَا بَيْعَةُ أَهْلِ الشَّامِ.