قَالَ: فَصَبَّحَ بِبَابِ الْقَصْرِ تِسْعَمِائَةَ رَأْسٍ، ثُمَّ خَرَجَ اللَّيْلَةَ الثَّانِيَةَ فَجَاءَ بِخَمْسِينَ رَأْسًا، ثُمَّ خَرَجَ اللَّيْلَةَ الثَّالِثَةَ، فَجَاءَ بِرَأْسٍ وَاحِدٍ، فَكَانَ النَّاسُ إِذَا صَلَّوا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، أَحْضَرُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ وَتَرَكُوا نِعَالَهُمْ.
قَالَ: ثُمَّ صَعِدَ زِيَادٌ الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: هَدَأَتِ الْبَلْدَةُ سَائِرَ الْيَوْمِ، لَكُمْ بُطُونُ بُيُوتِكُمْ، وَلَنَا ظُهُورُهَا، لا حَقَّ لَكُمْ فِي ظُهُورِهَا.
ثُمَّ قَالَ: أَيُّ سِكَكِ الْبَصْرَةِ أَخْوَفُ؟ قَالُوا: الْمِرْبَدُ.
فَأَمَرَ فَأُلْقِيَ فِيهَا كِسَاءُ خَزٍّ، فَبَقِيَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، لا يَقْرَبُهُ أَحَدٌ.
ثُمَّ قَالَ لِلْنَاسِ: افْتَحُوا مَنَازِلَكُمْ وَحَوَانِيتِكُمْ، فَمَنْ ذَهَبَ لَهُ شَيْءٌ فَزِيَادٌ لَهُ ضَامِنٌ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ، وَرَأْيُنَا لَكُمْ خَيرٌ مِنْ رَأْيِكُمْ لِأَنْفُسَكُمْ ".
قَالَ: " وَخَطَبَ زِيَادٌ حِينَ قَدِمَ الْبَصْرَةَ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّا أَصْبَحْنَا لَكُمْ سَادَةً، وَعَنْكُمْ ذَادَةً، نَسُوسُكُمْ بِسُلْطَانِ اللَّهِ الَّذِي أَعْطَانَا، وَنَذُودُ عَنْكُمْ بِنِعَمِ اللَّهِ الَّذِي خَوَّلَنَا، فَلَنَا عَلَيْكُمُ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحْبَبْنَا، وَلَكُمْ عَلَيْنَا الْعَدْلُ فِيمَا وُلِّينَا.
فَاسْتَوْجِبُوا عَدْلَنَا بِمُنَاصَحَتِكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنِّي مَهَمَا قَصَّرتُ فِيهِ فَلَنْ أُقَصِّرَ عَنْ ثَلاثٍ: لَسْتُ مُجْمِرًا لَكُمْ بَعْثًا، وَلا مُحْتَجِبًا عَنْ طَالِبِ حَاجَةٍ مَعَكُمْ وَلَوْ أَتَانِي طَارِقًا بِلَيلٍ، وَلا حَابِسًا لَكُمْ عَطَاءً، وَلا رِزْقًا عَنْ إِبَّانِهِ، فَادْعُوا اللَّهَ بِالصَّلاحِ لِأَئِمَّتِكُمْ، فَإِنَّهُمْ سَاسَتُكُمُ الْمُؤَدِّبُونَ، وَكَهْفِكُمُ الَّذِي إِلَيْهِ تَأْوُونَ، فَمَتَى يَصْلَحُوا تَصْلَحُوا، وَلا تُشْرِبُوا قُلُوبَكُمْ بُغْضَهُمْ، فَيَشْتَدَّ لِذَلِكَ غَيْضُكُمْ، وَيُعَوِّلَ لَهُ حُزْنُكُمْ، وَلا تُدْرِكُوا حَاجَتَكُمْ، مَعَ أَنَّهُ لَوِ اسْتُجِيبَ لِكُمْ فِيهَا كَانَ شَرًّا لَكُمْ.
أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُعِينَ كُلا عَلَى كُلٍّ، وَإِذَا رَأَيْتُمُونِي آمُرُ فِيكُمْ بِالأَمْرِ فَأَنْفِذُوهُ عَلَى أَذْلالِهِ، وايْمُ اللَّهِ إِنَّ لِي فِيكُمْ لَصَرْعَى كَثِيرَةً، فَلْيَحْذَرْ كُلُّ امْرِئٍ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ صَرْعَايَ.
قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الأَهْتَمِ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَيُّهَا الأَمِيرُ لَقَدْ أُوتِيتَ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ، قَالَ: كَذِبْتَ، ذَاكَ نَبِيُّ اللَّهِ دَاوُدُ، فَقَامَ الأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، فَقَالَ: أَيُّهَا الأَمِيرُ، قَدْ قُلْتَ فَأَسْمَعْتَ، وَوَعَظْتَ فَأَبْلَغْتَ، أَيُّهَا الأَمِيرُ، إِنَّمَا السَّيْفُ بِحَدِّهِ، وَالْفَرَسُ بِشَدِّهِ، وَالرَّجُلُ بِجِدِّهِ، وَإِنَّمَا الثَّنَاءُ بَعْدَ الْبَلاءِ، وَالْحَمْدُ بِعْدَ الْقَضَاءِ، وِلَنْ نُثْنِيَ حَتَّى نَبْتَلِيَ، فَقَامَ أَبُو بِلالٍ مِرْدَاسُ بْنُ أُدَيَّةُ، وَهُوَ يَهِمُ وَيَقُولُ: قَدْ أَنْبَأَنَا اللَّهُ بِغَيْرِ مَا قُلْتَ: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 38] ، فَسَمِعَهَا زِيَادٌ، فَقَالَ: يَا هَذَا إِنِّي لا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَبْلُغَ مَا تُرْيدُهُ حَتَّى أَخُوضَ الدِّمَاءَ خَوْضًا ".