المقدم: من الدعاوى التي نسمعها أحياناً أن هؤلاء المدعين يقولون: إن السلف لم يتفقوا على الثوابت الشرعية.
الشيخ: هذا جهل كذلك، ولا نستغرب أن يكون هذا الجهل من أصحاب هذه الاتجاهات؛ لأنهم لم يفقهوا الدين، ولم يعرفوا عقيدة السلف بالشكل الذي يجعلهم يعرفون قيمتها، لكن المؤسف أن هناك ممن ينتسب للعلم الشرعي من قد يجاري من غير تبصر بهذه الشبهة، فقد يقول: مساحة الثوابت قد تتفاوت.
وهذا خطير، فالثوابت بمعناها الشرعي الدقيق هي أصول الدين وقواطعه ومسلماته، أركان الدين وفرائضه وواجباته الأساسية، ليس فيها زيادة ولا نقص، ولا تختلف مساحة الإيمان بها بين عالم وآخر من علماء السلف، وقد يوجد من غير المنتسبين للسلف من يشكك، وهذا أمر طبيعي؛ لأنه لا يعرف الثوابت أو لا يؤمن بها، وليس عنده الأسس التي كان ينطلق منها السلف.
وقد يوجد من علماء السلف من يزلُّ زلة، والزلة لا اعتبار لها، لكن إذا نظرنا إلى عموم المنهج نجد أنهم لا يختلفون في الثوابت، ولا يختلفون في الأصول وفي القطعيات إطلاقاً، لا يختلفون في مصادرها ولا في قطعيتها، فمن هنا كان لا بد من استدراك أخشى أن أنساه، وهو الذي يتذرع به هؤلاء الذين يثيرون الشبه على السلف وعقيدة السلف، ويقولون: إنهم لا يتفقون على شيء، أو إن مساحة الاتفاق قد تقل وتكثر.
أقول: هؤلاء -في الحقيقة- يستدلون بأشياء تدل على قصورهم في إدراك الجانب المنهجي الدقيق والموضوعي عند السلف.
فكثيراً ما يستدلون على مقولتهم بأن السلف اختلفوا في كتب العقائد في كثير من المسائل، والحظ التحديد أو الإحالة على كتب العقائد، فهذا الأمر يوهم كثيراً من الناس، فما دام أن في كتب العقائد اختلافات؛ فمعنى ذلك أن هناك اختلافاً في الثوابت.
ومن هنا فلا بد من وقوف عند هذه النقطة بوقفة ضرورية من عدة جوانب: الجانب الأول: ليس كل ما يكتبه السلف في كتب العقائد هو من الثوابت، فهم في كتب العقائد يميزون بين الثوابت وغير الثوابت، هذا أولاً.
ثانياً: المسائل التي يختلفون فيها في كتب العقيدة هي مسائل خلافية فعلاً، لكنها ليست الأصول، فهي متفرعة، فدخلت في كتب العقائد لأنها متفرعة عن العقائد وخذ على سبيل المثال في المسلمات عند السلف أركان الإيمان، فهي من الثوابت عند السلف، لا يشكون فيها، وقد يقول قائل: هل هناك من العقلانيين من يشك في أركان الإيمان؟ فأقول: نعم.
المقدم: عجيب! الشيخ: فإذا كان يقول: الملائكة هي نوازع الخير، وليس هناك خلق اسمه الملائكة فإنه ما آمن بالملائكة.
المقدم: وهل هذا الكلام موجود؟ الشيخ: نعم، هو مذهب واسع يؤمن به عدد وفئام من الناس، وليس مذهباً قليلاً أو نادراً عندهم، يرون أن الملائكة نوازع الخير، وهذه نزعة فلسفية، فهؤلاء ما آمنوا بالملائكة.
الأمر الآخر: أنهم يسخرون من وصف الملائكة بصفات خَلْقية.
المقدم: عجيب! الشيخ: أي نعم، يسخرون سخرية واضحة.
ومن الغيبيات القطعية: الإيمان بالجن، وأحد كبار المعاصرين يرى أنه ليس هناك شيء اسمه جن، فالجن ما هم إلا مستضعفو البشر، وهذا معناه أن الفقراء عندهم جن، والمستضعفون من الناس جن، والشياطين هم الكبراء من بني آدم.
وهذا مذهب يحتذى الآن، مع أن ذلك من الثوابت عند السلف، فهم خرقوا هذه الثوابت بشبهات.
فالشاهد من هذا أنه توجد مسائل يختلف فيها السلف هي تابعة للعقيدة.
المقدم: مثل ماذا؟ الشيخ: لهذا أمثلة كثيرة، فالسلف حينما أثبتوا الإيمان بالملائكة اختلفوا في كتب العقائد في هل هناك ملكان اسمهما منكر ونكير، فـ (منكر ونكير) لم يردا في نص، بل ذكرا في نصوص ضعيفة، فاختلفوا في اسم منكر ونكير، ولم يختلفوا في الملكين اللذين يأتيان العبد في القبر.
ومن ذلك ملك الموت، قيل: إن اسمه عزرائيل، وجاء الخلاف فيه في كتب العقائد، فهو اسم لم يثبت، وثبت اسم إسرافيل وجبريل وميكائيل، وأما عزرائيل فلم يرد في نص قاطع، فهذه أمثلة في الإيمان بالملائكة.
والإيمان بالرسل تتفرع عن الثوابت الموجودة فيه والقواعد القطعية مسائل، كمسألة الخضر؛ فقد دخل في كتب العقائد الخلاف في الخضر هل هو نبي أو غير نبي، وهذا الخلاف لا يضر؛ لأنه لا يوجد نص قطعي، فلا يضر ولا يؤثر في مبدأ الإيمان بالملائكة.
وخذ مثالاً غير أركان الإيمان الستة، ولنأخذ الرؤية مثلاً، أي: رؤية العباد لربهم عز وجل يوم القيامة في الجنة بأبصارهم، نسأل الله أن يمتعنا جميعاً بهذا.
فالرؤية متفق عليها؛ لأن فيها نصوصاً قواطع، ونصوصاً متواترة، وآيات قاطعة في الدلالة، لكنهم اختلفوا في مسائل في الرؤية؛ لأن الدليل فيها غير واضح، أو لم يثبت، أو أن دلالته غير قطعية، مثل رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في المعراج، فهل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه بعينه أم بفؤاده؟ هذه محل خلاف، لكن أصل الرؤية ثابت.
وهكذا لا تجد أصلاً من الأصول القطعية إلا وله حد لا يختلف فيه السلف، وهناك ما دون هذا الحد مما يختلفون فيه من المسائل التي تفرعت عن هذا.
فأخذ هؤلاء المفتونون -نسأل الله السلامة- مثل هذه المسائل