موقفنا مع ولاة الأمور أن ندعوا لهم بالصلاح وبالإصلاح، وندعو لهم بالعطف إلى العدل وبأن يردهم الله تعالى إلى العدل، فإن الدعوة لهم فيها خير وفوائد.
أولاً: أننا نأمن في ولايتهم، نعرف أن في ولايتهم على البلاد خير كثير حيث تأمن البلاد وتسلم من قطاع الطريق وتسلم من الفتن نحوها.
ثانياً: جمع كلمة المسلمين، واتفاقهم على إمام واحد أو ولي واحد، فلذلك إذا رأينا منهم شيئاً من الجور أو ارتكاب شيء من المعاصي، أو نقصاً ننصحهم وندلهم على طرق الخير، ولا ننسى أن ندعوا الله لهم بالإصلاح وأن يردهم إلى العدل.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولا يجوز الخروج عليهم بالسيف] .
الخروج عليهم معناه: الخروج على الأئمة.
فلا يجوز ولو كانوا عصاة، وما ذاك إلا أن في الخروج عليهم مفاسد كبيرة، وهو سبب للفتن وللقتل ولاستباحة الأموال والبلاد ولتفرق الكلمة، وقد كان السلف رحمهم الله تعالى ينهون عن الخروج على الأئمة بالسيف ولو جاروا وظلموا وبطشوا، ويقولون: ليس في الخروج عليهم مصلحة، بل إن ذلك يؤدي إلى مفاسد كبيرة.
وفي عهد الإمام أحمد وجد كثير من الأئمة ممن عليهم مآخذ، من آخرهم الذي أدركه هو المعتصم، وكان قبله المأمون الذي فتن الناس ودعاهم إلى القول بخلق القرآن، ومع ذلك كان يدعو لهم رحمه الله بالصلاح والإصلاح، ويستأذنه بعض أصحابه في أن يثوروا ويخرجوا عليهم ويقاتلوهم فيقول: ماذا تحصلون عليه من قتالهم؟ لا تحصلون إلا على فشل وعلى ذل وهوان.
ويضرب لهم أمثلة للذين خرجوا على أئمة الجور أنهم باؤوا بالفشل منذ العهد الأول.
فمثلاً: في عهد بني أمية كانت ثورات كثيرة وكلها باءت بالفشل، فمن أشهرها فتنة ابن الأشعث، وذلك لأنه بعثه الحجاج لقتال بعض بلاد الأفغان لما بلغهم أن أمير كابول منع الجزية، فعند ذلك أرسله للغزو وشدد عليه، ولما شدد عليه خلع بيعة الحجاج وطاعته، ثم خلع بيعة عبد الملك وطاعته، ثم كان في النهاية أن بايعه الجيش، ثم أهل العراق، ثم حصل القتال بينه وبين الحجاج، ثم كانت الهزيمة على ابن الأشعث وقتله بعد ذلك، وحصل بذلك أن قتل في هذه الفتنة أكثر من ثمانين ألفاً بسبب هذه الفتنة ولم يحصلوا على نتيجة.
ثم بعده: ابن المهلب أراد أن يخلع أيضاً بيعة خلفاء بني أمية لما رأى طاعة الجيش له وباء بالفشل.
ثم بعده: قتيبة بن مسلم الذي فتح كثيراً من بلاد الهند وما وراء النهر والسند ورأى طاعة الجيش له وخلع بيعة خليفة بني أمية ولم يحض إلا بالفشل.
فيضرب الإمام أحمد مثلاً بهؤلاء، وكذلك في خلافة المنصور لما تمت البيعة لبني العباس ثار عليه اثنان من أولاد الحسن بن علي أحدهما في المدينة والثاني في البصرة، ومع كثرة الجيوش التي بايعتهم ومع ذلك باءا بالفشل.
فمن عقيدة أهل السنة عدم الخروج على الأئمة بالسيف، وخالف في ذلك طائفتان: الخوارج والمعتزلة.
فالخوارج ثاروا في عهد علي، وقاتلهم علي وشردهم، وبقي منهم بقايا صاروا يثورون كلما تقووا في عهد بني أمية، ولكنهم لا ينتصرون غالباً، ولو حصل لهم شيء من الانتصارات في بعض الأحيان.
أما المعتزلة فإن من عقيدتهم جواز الخروج على أئمة الجور، هذا من معتقدهم ولكنهم لم ينفذوا ذلك؛ لأن الغالب عليهم التفرق، فلم يصلوا إلى وقت يثورون فيه ويقاتلون الأئمة ويخرجون عليهم.
فالحاصل أن أهل السنة يرون عدم الخروج على الأئمة بالسيف، ويرون عدم القتال في الفتن بين المسلمين، وأن ذلك ضعف للإسلام وللمسلمين، ثم إذا ثارت ثائرة على إمام المسلمين فإن على عموم المسلمين أن يقاتلوهم بأمر ذلك الإمام، وهؤلاء يسمون (البغاة) ، وهم الذين يثورون على إمام المسلمين أو أمير المؤمنين بشبهة تعرض لهم، فإذا كانت لديهم شوكة وقوة فإن الإمام أولاً يزيل الشبهات التي عندهم، بأن يراسلهم وينظر ما هي الشبه التي يتشبثون بها ويتعلقون بها فيزيلها، ثم ثانياً يقاتلهم، ويلزم الجيش طاعته والصبر والقتال معه للفئة الباغية.