لا شك أن الذي يقرأ التاريخ الواقعي يعلم أولاً أهلية هؤلاء الخلفاء لكونهم خلفاء حقاً، وصحة خلافتهم، ورضى الأمة بهم، وكذلك أيضاً ما حصل بخلافتهم من النصر والتمكين، وإظهار الحق، والسيرة الحسنة، والاقتفاء لسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، لاشك أن هذا أمر واقعي يشهد به التاريخ.
فمعلوم أن أبا بكر رضي الله عنه له مزايا وفضائل، فهو أول من أسلم من الرجال، وبإسلامه ثبت النبي صلى الله عليه وسلم على ما يقوله، وبه أيضاً فتح الله على قلوب كثير من الصحابة، فهو الذي دعى عثمان فأسلم، ودعى سعداً وطلحة وابن عوف فأسلموا، أي: أكثر الصحابة -سيما من العشرة- أسلموا بدعوته رضي الله عنه، وذلك لأنه كان شريفاً في قومه، وكان له مكانته، وكان أيضاً يكرم الضيف، ويكسب المعدوم، ويرفع الكل والثقل ويحمله، ويعين على نوائب الحق، فهو جواد ذو مكانة في قومه، فلما أسلم كان هذا مما دفع كثيراً من الصحابة إلى الإسلام.
ومعلوم أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذه خليلاً وصديقاً وفضله على غيره، وقال في آخر حياته: (لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً) ، ثم معلوم أيضاً أنه لما مرض المرض الذي مات فيه استخلف أبا بكر يصلي بالناس، فصلى بهم تلك الأيام.
هذا هو الذي يشهد به الواقع الحقيقي، حتى إن بعض أمهات المؤمنين وهما عائشة وحفصة رضي الله عنهما قالت له: (لو أمرت عمر أن يصلي بالناس؟ فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، فإنكن صواحب يوسف) ، فأكد أن أبا بكر هو الذي يصلي بالناس، ولما مرض النبي صلى الله عليه وسلم دعا بكتاب يكتبه حتى لا يضل الناس بعده، ولما كثرت عنده الأصوات والكلام قال عند ذلك: (قوموا عني) ، ثم قال في رواية: (يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) .
ولما توفي صلى الله عليه وسلم اجتمع الصحابة في سقيفة بني ساعدة وخطبهم عمر، وخطبهم أبو بكر واتفقوا على أن يبايعوا أبا بكر، وقالوا: رضينا لدنيانا من رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، إذا كان رضيه إماماً لنا يتقدم بنا في الصلاة فإن ذلك دليل على أفضليته، فنختاره أميراً لنا يتصرف فينا ويدبر شئون الأمة.
فولوه ورضوا به، ونعم الخليفة كان، لقد ثبت ثبوت الجبال الراسية، ولما استخلف ارتد من حولهم من الأعراب وما بقي إلا أهل المدينة ومكة، أما الأعراب الذين حولهم فارتدوا، ولكن ماذا حصل؟ ثبت رضي الله عنه، ثم جهز جيش أسامة الذي كان عليه الصلاة والسلام قد عزم على بعثه، فقالوا له: كيف تجهزه والناس مرتدون؟ فقال: لو جرت السباع بأرجل أمهات المؤمنين لم أترك جيشاً أمر بإنفاذه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فذهب ذلك الجيش يشق تلك الفيافي ويمر على أولئك الأعراب، وكلما مر على قوم قالوا: هذا دليل على عزتهم وقوتهم، لو كان فيهم ضعف ما أرسلوا هذا الجيش في هذا الوقت الحرج.
فغزوا وأغاروا على بلاد الروم وما حولها، ثم رجعوا سالمين غانمين.
وبعد ذلك أغار على المدينة بعض الأعراب يريدون أن يستحلوا المدينة، وكان أبو بكر رضي الله عنه حازماً، فجمع أهل المدينة وقابلوا أولئك الأعراب وهزموهم شر هزيمة وانقلبوا خاسئين، وبعد ذلك رجع من كان أسلم، ثم عند ذلك جهز سبعة عشر جيشاً لغزوا أولئك المرتدين، فلما أن جهز هذه الجيوش علم الناس أنه ذو قوة، فعاد الذين كانوا قد ارتدوا ودخلوا في الإسلام.
وكل ذلك بفكرته رضي الله عنه.
وبسيرته الحسنة.
ثم إنه لم تطل به المدة، إنما استقام في الخلافة سنتين وأشهراً، وحسده بعض الحسدة وسقوه سماً، وقالوا: إنه مات مسموماً.
والله أعلم بذلك، وبكل حال فهو الخليفة الراشد رضي الله عنه، ولما علم بأنه سوف يموت رأى أن عمر رضي الله عنه أولى بالخلافة، وذلك لأنه رأى فيه الحزم والعزم والقوة والجد والنشاط في الأمر، فولاه الخلافة بعده.