قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويعتقدون جواز الرؤية من العباد المتقين لله عز وجل في القيامة دون الدنيا، ووجوبها لمن جعل الله ذلك ثواباً له في الآخرة] .
فرّق في أول الأمر بقوله (جواز الرؤية) ثم بعد ذلك قال: (ووجوبها) ، فيعتقدون الجواز ويعتقدون الوجوب، فالوجوب هو أن الله تعالى وعد المتقين بأنهم يلقون ربهم، وبأنهم يرونه ويكون ذلك من ثوابهم، ولا بد أن يحصل ذلك كما أخبر الله به وكما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.
ومسألة الرؤية هي أيضاً من المسائل التي عظم فيها الخلاف فأنكرها المعتزلة إنكاراً بليغاً وشددوا في إنكارها، وقالوا: لأنها -أولاً- تستلزم المقابلة، وثانياً تستلزم الجهة، وثالثاً تستلزم التجسيم -على حد تعبيرهم-.
وغير ذلك من التقديرات، فلذلك أنكروها.
وهذا مبني على معتقدهم الضال الذي يدينون به أن الله تعالى ليس في جهة، لا فوق، ولا تحت، ولا يمين، ولا يسار، ولا أمام، ولا خلف، ومعتقدهم أيضاً أن الله ليس بعرض ولا بجوهر.
وإذا نظرنا في معتقدهم في ذات الله تعالى رأينا أن حقيقة قولهم أنهم لا يثبتون ذاته، فلا جرم كان قولهم في هذا الباب مبنياً على عقيدتهم، وهي اعتقاد أن الله ليس في جهة، فإذا لم يكن في جهة فكيف يتمثل أمام الرائين، الرؤية لا بد أن تكون أمام الرائي، وأن تكون عن مقابلة ونظر، فأنكروها إنكاراً بليغاً.
ثم جاء الأشاعرة وهم أكثر وجوداً وأشد تكاثراً في البلاد، ومذهبهم هو المذهب المنتشر والمتمكن في كثير من البلاد الإسلامية، ولما كان أكثرهم على مذهب الشافعي في الفقه والأحكام، وكان الشافعي رحمه الله يصرح بإثبات رؤية الله تعالى ويستدل بقوله للكفار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] ، ويقول: إن هذا من عقيدة المسلمين.
حينها لم يتجرؤوا على إنكار الرؤية إنكاراً واضحاً، بل أقروا بها إقراراً ظاهراً، ولكن في الحقيقة لا يثبتونها، فيقولون: نثبت رؤية الله، ولكن الرؤية التي نثبتها هي مكاشفات للقلوب وتخيلات ليست حقيقة.
فينكرون أن تكون الأحداق تقابل ذات الرب تعالى، ويقولون: ليس المراد من تلك الرؤية تقليب الأحداق نحو ذات الرب تعالى؛ فإن هذا محال -في زعمهم- لأنه يستلزم إثبات الجهة.
هذا هو معتقدهم.
فنقول: نحن نثبت الرؤية الحقيقية، ونثبت أن الله تعالى في جهة العلو فوق عباده، ونثبت أنه يتجلى لعباده كما يشاء، كما أننا وأنتم نثبت لله تعالى ذاتاً حقيقية، وإذا كان كذلك فلا بد أن تكون الذات تُرى، يراها عباده كما يشاء ويتجلى لعباده، وكما أنه تعالى يُسمع كلامه فلا بد أيضاً أن يكون يُرى كما يشاء ويتجلى لعباده، وهذا هو القول الذي تؤيده الأدلة.
وقد استُدِل على ذلك بأن موسى عليه السلام سأل الرؤية بقوله: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] ، ولا بد أن موسى عالم بأنه يمكن أن يرى ربه، ولكن الله تعالى أخبر موسى بأنه لا يستطيع أن يتماثل وأن يثبت أمام عظمة الرب تعالى، ولهذا قال: {وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:143] .
يقول أهل السنة: إن الله تعالى علّق رؤيته على ثبات الجبل واستقراره، ولا شك أنه ممكن، والتعليق على الممكن ممكن، وأيضاً فإن الله تجلّى للجبل والجبل جماد، فإذا جاز أن يتجلى للجبل فكيف لا يتجلى لعباده؟! ولكن عباده في الدنيا خلقتهم ضعيفة لا يمثلون ولا يثبتون أمام رؤية الله تعالى الذي هذه عظمته؛ لأنه ورد في الحديث: (حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) ، فقد أخبر في هذا الحديث بأنه احتجب بالنور، وأن هذا النور لو كشفه لاحترق ما انتهى إليه من الخلق من جماد أو من حيوان أو نحو ذلك، فإذا كان في يوم القيامة أمد عباده المؤمنين في الجنة بقوة في أجسادهم وأنظارهم يثبتون بها لرؤية الله إذا تجلى لهم، ويكون ذلك من أعظم ثوابهم وأجرهم عند ربهم.
فنعتقد أن رؤية الله تعالى في الآخرة ممكنة، وأنها واقعة في الجنة، وقد ورد في حديث الشفاعة أن الله تعالى ينزل لفصل القضاء بين عباده كما يشاء، وأنه يقول: (لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ومن كان يعبد القمر القمر، ومن كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الرب تعالى في صورة غير التي يعرفونها، فيقول: ماذا تنتظرون؟ فيقولون: فارقنا الناس أحوج ما كنا إليهم، فلا نزال هاهنا حتى يأتينا ربنا، فإذا أتانا ربنا عرفناه.
فعند ذلك يكشف عن ساق فيسجد من كان يسجد لله تعالى في الدنيا اختياراً، ويتعذر السجود على من كان لا يسجد في الدنيا، وذلك معنى قوله: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:42] ) ، فالحاصل أن في هذا دليلاً على أنه يتجلى لعباده في يوم القيامة ويرونه ويعرفونه، هذا في يوم القيامة، وأما في الجنة فالأحاديث صريحة في إثبات أن الله تعالى يتجلى لعباده، وأنهم يزورون ربهم إما في كل أسبوع وإما في كل يوم مرة أو مرتين.
وفُسِّر قول الله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:62] قالوا: ليس في الجنة شمس ولا ليل ولا نهار، بل كل وقتهم ضياء، ولذلك فلا بد أن يكون قوله (بُكْرَةً وَعَشِيًّا) له معنى.
ففسِّر بأن ثوابهم الذي منه رؤية الله تعالى يكون بمقدار الغدو في الدنيا والعشي فيها.
ويدل أيضاً على ذلك حديث جرير في الصحيحين عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا) ، ويريد بهاتين الصلاتين العصر والفجر.
فقيل: الحكمة في ذلك أن الذين يواظبون على هذه الصلوات يكون من ثوابهم أن الله تعالى يتجلى لهم ويرونه بكرة وعشياً، أي: في وقت صلاة العصر والفجر.
فهؤلاء هم أعظم أهل الجنة ثواباً، وأما البقية من أهل الجنة فإنهم يرون ربهم بمقدار يوم الجمعة، ويسمى يوم المزيد، وبذلك فُسِّر قوله تعالى: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] أن المزيد هو النظر إلى رؤية الله تعالى، وأن ذلك يكون بمقدار يوم الجمعة، أي: بعدما يمضي عليهم قدر سبعة الأيام، ففي يوم الجمعة يزورون ربهم، فقد ورد في الأحاديث أنهم ينصب لهم منابر من نور -أي: كراسي- ومنابر من لؤلؤ وذهب وفضة، ويجلس أدناهم -وما فيهم دني- على كثُب من اللؤلؤ لا يرون أن أهل المنابر أفضل منهم، لا يحصيهم إلا الله تعالى، يجلسون كما يشاء، ثم يتجلى لهم، فإذا تجلى لهم الرب تعالى لم يلتفتوا إلى غيره ماداموا مقابلين له، ويخاطبهم ويخاطبونه كما يشاء كذلك حتى يحتجب عنهم، فإذا رجعوا إلى أهليهم وزوجاتهم من الحور العين قالوا: لقد ازددتم بعدنا نعيماً.
فيقولون: وكيف لا وقد لقينا ربنا أو رأينا ربنا.
وفسِّر بذلك قول الله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ} [يونس:26] ، فالزيادة فسِّرت بأنها النظر إلى الله تعالى، (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى) يعني الجنة، (وَزِيَادَةٌ) يعني النظر إلى وجه الله تعالى، فسّرها بذلك كثير من السلف، وروي ذلك مرفوعاً، وفسّرها بذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه وغيرهم.
ثم قال: (وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ) ، يعني: ومتى نظروا إلى ربهم فلا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة.
والقتر: هو الغبرة التي تكون على الوجوه، لقوله تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس:40-41] ، فالحاصل أن هذا أكمل وأشرف نعيم أهل الجنة.
والذين أنكروا ذلك كأنهم حرموا أنفسهم أعظم لذة وأعظم نعيم يتنعم به أهل الجنة، وادعوا أن ذلك يكون تنقصاً لله تعالى، وأنه وصف له بوصف الحوادث أو المركبات أو ما أشبه ذلك، فالحاصل أنا نؤمن بجواز الرؤية من العباد لله تعالى في يوم القيامة، يرونه إذا نزل لفصل القضاء، ووجوبها لمن جعل الله ذلك لهم ثواباً في الآخرة، على أن ذلك من نعيم أهل الجنة، واستدل بهاتين الآيتين، الأولى: قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ، فاللفظة الأولى كُتبت بالضاد (نَاضِرَةٌ) من النضارة التي هي البهاء والسرور، كما في قوله تعالى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان:11] أي: بهاءً وزينة وجمالاً، لماذا؟ لأن تلك الوجوه نظرت إلى ربها فازدادت نضارة وحسناً، ولهذا قال: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} وهذه الأخيرة كتبت بالظاء أخت الطاء من النظر الذي هو المعاينة، أي: تنظر إلى ربها.
فهي دليل واضح، فالله تعالى ذكر الوجوه لأن أثر النضارة يظهر على الوجه من إشراق الوجه وسروره، فإذا لقي ما يسره أشرق الوجه وأسفر، والأعين لا شك أنها في الوجه، أي: بالوجه حقاً، لهذا وصف الله تعالى وجوههم بأنها ناضرة إلى ربها ناظرة.
ثم استدل أيضاً بالآية الأخرى {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] ، وعيد للكفار أنهم يوم القيامة وفي النار محجوبون عن ربهم، والحجاب عذاب لهم، ولا شك أن هذا دليل على أن المؤمنين ليسوا بمحجوبين، فلو كانوا لا يرون الله تعالى لكان كل الخلق محجوبين عن ربهم، فلما حجب الكفار لكونه غضب عليهم دلّ على أن المؤمنين لا يحجبون عنه لكونه رضي عنهم.
قال المصنف رحمه الله: [فلو كان المؤمنون كلهم والكاف