لا يمنع أن يكون في الدين ما يوافق معقول الإنسان ونظره، فبعض الدين بين الله تبارك وتعالى الحكمة منه، وكانت تتمشى مع العقل السليم، لكن الله تبارك وتعالى أخفى على عباده حكمة بعض الأوامر والنواهي ليبتلي إيمانهم أيؤمنون به أم لا، وأنا أضرب لك أمثلة أنت تؤمن بها، ولكنك لا تتصورها، ولا يمكن أن تتخيلها بل ولا تعقلها: الجنة وما فيها من نعيم، والنار وما فيها من عذاب هل تتصورها؟
صلى الله عليه وسلم لا.
النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إن الصراط أدق من الشعرة وأحد من السيف) من يعقل هذا؟ لا أحد.
خلق الملائكة: ملك واحد بلغت أجنحته ستمائة جناح، الجناح الواحد يسد ما بين السماء والأرض، من يعقل ذلك؟! ولذلك ابتلى الله عز وجل إبراهيم عليه السلام صاحب الحنيفية أبو الأنبياء، وجعل الله تعالى الأنبياء من نسله، ولذلك كان إمام الأنبياء؛ لأنه سلم في غير المعقول، من منا يأخذ امرأته وولده ويتركهما في أرض قفر صحراء لا زرع فيها ولا ماء، لابد أنه قبل الآخرين يحكم على نفسه بالجنون، إبراهيم عليه السلام لما أمر بترك ولده وزوجه في صحراء مكة عند البيت الحرام قبل بنائه وقبل ظهور معالمه لما أمر بترك زوجه وولده في هذا المكان القفر تركهم بغير تردد ولا شك ولا ارتياب، ثم انطلق إلى ربه، وكذلك لما أمر بذبح ولده البكر إسماعيل نفذ الأمر مباشرة، فلما علم الله عز وجل منه الصدق والإذعان أنزل نجاة ولده كبشاً يذبح فداء، وهو سنة لجميع أهل الإسلام إلى قيام الساعة، من منا يفعل ما كان يفعله إبراهيم عليه السلام.
الإيمان عجيب إذا خالطت بشاشته القلوب، ينطلق صاحبه لينفذ كل أمر ويجتنب كل نهي.
النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ضرس الكافر يوم القيامة كجبل أحد) ضرس من أضراس الكافر يوم القيامة كجبل أحد، فما بالكم بجميع أضراسه، بل ما بالكم بجميع بدنه كيف يكون الكافر حينذاك؟ لابد من التسليم، وإلا إذا لم تسلم وقعت في التكذيب وهو كفر.
ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر)، وهجر هي أرض البحرين الآن، بين قوائم الباب الواحد من أبواب الجنة كما بين مكة والبحرين، وفي رواية: (ما بين مكة وبصرى) أي: الشام، من منا يصدق أن باباً واحداً سعته ما بين البحرين ومكة، أو مكة والشام، من منا يصدق أن في الجنة شجرة يسير الراكب المسرع في ظلها مائة عام؟ لابد من الإيمان والتسليم وإلا وقعت في التكذيب والجحود والنكران، لابد أن تقول: سمعنا وأطعنا حتى تتميز عن غيرك، وحتى تكون حقاً مقدماً للنقل على العقل.
وكذلك القبر وما فيه من عذاب ونعيم نؤمن به إيماناً جازماً، ونؤمن أن هذا القبر الضيق الذي لم يبلغ عرضه متراً وطوله مترين نؤمن أنه يفتح لأهل الإيمان وأهل الطاعة حتى يكون مد بصرهم، وينعمون فيه أكثر من نعيمهم في حياتهم الدنيا، كما نؤمن أن هذا القبر يكون على أهل الكفر والجحود والعناد وعلى أصحاب المعاصي حفرة من حفر النار يضيق على صحابه؛ حتى يبعثه الله عز وجل يوم القيامة فيدخله النار، نؤمن بهذا كله، وإن كان المعقول يقول: هذا شيء غير معقول، لكننا لا نحكم عقولنا والحالة هذه، بعض الناس يقول: لابد لي من إثبات الحكمة من الأمر والنهي؛ لأن دين الله تبارك وتعالى مبني على الحكمة، وهو الحكيم الخبير اللطيف سبحانه وتعالى.
أقول: نعم، لا يوجد أمر إلهي إلا ووراءه حكمة، لكن الفارق بيني وبينك: أنني أؤمن أن الله تبارك وتعالى أحياناً يبين الحكمة في الأمر والنهي، وأحياناً يخفيها ابتلاء لإيمان العبد.
نعم، كل أمر ونهي مبني على الحكمة لا محالة، الله تعالى لا يشرع شرعه سدى ولا هباء ولا بغير مصلحة للعباد، وربما ظهرت المصلحة وربما خفيت، لكنها تخفى على العباد ولا تخفى على رب العباد الذي شرعها وأمر بها أو نهى عنها.